سورة النساء - تفسير في ظلال القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


هذا الشوط الأول في السورة يبدأ بآية الافتتاح، التي ترد الناس إلى رب واحد، وخالق واحد؛ كما تردهم إلى أصل واحد، وأسرة واحدة، وتجعل وحدة الإنسانية هي النفس ووحدة المجتمع هي الأسرة، وتستجيش في النفس تقوى الرب، ورعاية الرحم.. لتقيم على هذا الأصل الكبير كل تكاليف التكافل والتراحم في الأسرة الواحدة، ثم في الإنسانية الواحدة. وترد إليه سائر التنظيمات والتشريعات التي تتضمنها السورة.
وهذا الشوط يضم من تلك التكاليف ومن هذه التشريعات، ما يتعلق بالضعاف في الأسرة وفي الإنسانية من اليتامى، وتنظم طريقة القيام عليهم وعلى أموالهم كما تنظم طريقة انتقال الميراث بين أفراد الأسرة الواحدة، وأنصباء الأقرباء المتعددي الطبقات والجهات، في الحالات المتعددة.. وهي ترد هذا كله إلى الأصل الكبير الذي تضمنته آية الافتتاح، مع التذكير بهذا الأصل في مطالع بعض الآيات أو في ثناياها، أو في خواتيمها، توثيقاً للارتباط بين هذه التنظيمات والتشريعات، وبين الأصل الذي تنبثق منه، وهو الربوبية التي لها حق التشريع والتنظيم، هذا الحق الذي منه وحده ينبثق كل تشريع وكل تنظيم. {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء. واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام. إن الله كان عليكم رقيباً}..
إنه الخطاب للناس.. بصفتهم هذه، لردهم جميعاً إلى ربهم الذي خلقهم.. والذي خلقهم {من نفس واحدة}.. {وخلق منها زوجها. وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء}..
إن هذه الحقائق الفطرية البسيطة لهي حقائق كبيرة جداً، وعميقة جداً وثقيلة جداً.. ولو ألقى الناس أسماعهم وقلوبهم إليها لكانت كفيلة بإحداث تغييرات ضخمة في حياتهم، وبنقلهم من الجاهلية- أو من الجاهليات المختلفة- إلى الإيمان والرشد والهدى، وإلى الحضارة الحقيقية اللائقة بالناس وبالنفس واللائقة بالخلق الذي ربه وخالقه هو الله..
إن هذه الحقائق تجلو للقلب والعين مجالاً فسيحاً لتأملات شتى:
1- إنها ابتداء تذكر الناس بمصدرهم الذي صدروا عنه؛ وتردهم إلى خالقهم الذي أنشأهم في هذه الأرض.. هذه الحقيقة التي ينساها الناس فينسون كل شيء! ولا يستقيم لهم بعدها أمر!
إن الناس جاءوا إلى هذا العالم بعد أن لم يكونوا فيه.. فمن الذي جاء بهم؟ أنهم لم يجيئوا إليه بإرادتهم. فقد كانوا- قبل أن يجيئوا- عدماً لا إرادة له.. لا إرادة له تقرر المجيء أو عدم المجيء. فإرادة أخرى- إذن- غير إرادتهم، هي التي جاءت بهم إلى هنا.. إرادة أخرى- غير إرادتهم- هي التي قررت أن تخلقهم إرادة أخرى- غير إرادتهم- هي التي رسمت لهم الطريق، وهي التي اختارت لهم خط الحياة.
إرادة أخرى- غير إرادتهم- هي التي منحتهم وجودهم ومنحتهم خصائص وجودهم، ومنحتهم استعداداتهم ومواهبهم، ومنحتهم القدرة على التعامل مع هذا الكون الذي جيء بهم إليه من حيث لا يشعرون! وعلى غير استعداد، إلا الاستعداد الذي منحتهم إياه تلك الإرادة التي تفعل ما تريد.
ولو تذكر الناس هذه الحقيقة البديهية التي يغفلون عنها لثابوا إلى الرشد من أول الطريق..
إن هذه الإرادة التي جاءت بهم إلى هذا العالم، وخطت لهم طريق الحياة فيه، ومنحتهم القدرة على التعامل معه، لهي وحدها التي تملك لهم كل شيء، وهي وحدها التي تعرف عنهم كل شيء، وهي وحدها التي تدبر أمرهم خير تدبير. وإنها لهي وحدها صاحبة الحق في أن ترسم لهم منبع حياتهم، وأن تشرع لهم أنظمتهم وقوانينهم، وأن تضع لهم قيمهم وموازينهم. وهي وحدها التي يرجعون إليها وإلى منهجها وشريعتها وإلى قيمها وموازينها عند الاختلاف في شأن من هذه الشؤون، فيرجعون إلى النهج الواحد الذي أراده الله رب العالمين.
2- كما أنها توحي بأن هذه البشرية التي صدرت من إرادة واحدة، تتصل في رحم واحدة، وتلتقي في وشيجة واحدة، وتنبثق من أصل واحد، وتنتسب إلى نسب واحد:
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء}..
ولو تذكر الناس هذه الحقيقة، لتضاءلت في حسهم كل الفروق الطارئة، التي نشأت في حياتهم متأخرة، ففرقت بين أبناء النفس الواحدة، ومزقت وشائج الرحم الواحدة، وكلها ملابسات طارئة ما كان يجوز أن تطغى على مودة الرحم وحقها في الرعاية، وصلة النفس وحقها في المودة، وصلة الربوبية وحقها في التقوى.
واستقرار هذه الحقيقة كان كفيلاً باستبعاد الصراع العنصري، الذي ذاقت منه البشرية ما ذاقت، وما تزال تتجرع منه حتى اللحظة الحاضرة؛ في الجاهلية الحديثة، التي تفرق بين الألوان، وتفرق بين العناصر، وتقيم كيانها على أساس هذه التفرقة، وتذكر النسبة إلى الجنس والقوم، وتنسى النسبة إلى الإنسانية الواحدة والربوبية الواحدة.
واستقرار هذه الحقيقة كان كفيلاً كذلك باستبعاد الاستعباد الطبقي السائد في وثنية الهند والصراع الطبقي، الذي تسيل فيه الدماء أنهاراً في الدول الشيوعية، والذي ما تزال الجاهلية الحديثة تعتبره قاعدة فلسفتها المذهبية ونقطة انطلاقها إلى تحطيم الطبقات كلها، لتسويد طبقة واحدة، ناسية النفس الواحدة التي انبثق منها الجميع، والربوبية الواحدة التي يرجع إليها الجميع!
3- والحقيقة الأخرى التي تتضمنها الإشارة إلى أنه من النفس الواحدة {خلق منها زوجها}.. كانت كفيلة- لو أدركتها البشرية- أن توفر عليها تلك الأخطاء الأليمة، التي تردت فيها، وهي تتصور في المرأة شتى التصورات السخيفة، وتراها منبع الرجس والنجاسة، وأصل الشر والبلاء.
وهي من النفس الأولى فطرة وطبعاً، خلقها الله لتكون لها زوجاً وليبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، فلا فارق في الأصل والفطرة، إنما الفارق في الاستعداد والوظيفة..
ولقد خبطت البشرية في هذا التيه طويلاً. جردت المرأة من كل خصائص الإنسانية وحقوقها. فترة من الزمان. تحت تأثير تصور سخيف لا أصل له. فلما أن أرادت معالجة هذا الخطأ الشنيع اشتطت في الضفة الأخرى، وأطلقت للمرأة العنان، ونسيت أنها إنسان خلقت لإنسان، ونفس خلقت لنفس، وشطر مكمل لشطر، وأنهما ليسا فردين متماثلين، إنما هما زوجان متكاملان.
والمنهج الرباني القويم يرد البشرية إلى هذه الحقيقة البسيطة بعد ذلك الضلال البعيد..
4- كذلك توحي الآية بأن قاعدة الحياة البشرية هي الأسرة، فقد شاء الله أن تبدأ هذه النبتة في الأرض بأسرة واحدة. فخلق ابتداء نفساً واحدة، وخلق منها زوجها. فكانت أسرة من زوجين. {وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء}.. ولو شاء الله لخلق- في أول النشأة- رجالاً كثيراً ونساء، وزوجهم، فكانوا أسراً شتى من أول الطريق. لا رحم بينها من مبدأ الأمر. ولا رابطة تربطها إلا صدورها عن إرادة الخالق الواحد. وهي الوشيجة الأولى. ولكنه- سبحانه- شاء لأمر يعلمه ولحكمة يقصدها، أن يضاعف الوشائج. فيبدأ بها من وشيجة الربوبية- وهي أصل وأول الوشائج- ثم يثني بوشيجة الرحم، فتقوم الأسرة الأولى من ذكر وأنثى-هما من نفس واحدة وطبيعة واحدة وفطرة واحدة- ومن هذه الأسرة الأولى يبث رجالاً كثيراً ونساء، كلهم يرجعون ابتداء إلى وشيجة الربوبية، ثم يرجعون بعدها إلى وشيجة الأسرة. التي يقوم عليها نظام المجتمع الإنساني. بعد قيامه على أساس العقيدة.
ومن ثم هذه الرعاية للأسرة في النظام الإسلامي، وهذه العناية بتوثيق عراها، وتثبيت بنيانها، وحمايتها من جميع المؤثرات التي توهن هذا البناء- وفي أول هذه المؤثرات مجانبة الفطرة، وتجاهل استعدادات الرجل واستعدادات المرأة وتناسق هذه الاستعدادات مع بعضها البعض، وتكاملها لإقامة الأسرة من ذكر وأنثى.
وفي هذه السورة وفي غيرها من السور حشد من مظاهر تلك العناية بالأسرة في النظام الإسلامي.. وما كان يمكن أن يقوم للأسرة بناء قوي، والمرأة تلقى تلك المعاملة الجائرة، وتلك النظرة الهابطة التي تلقاها في الجاهلية- كل جاهلية- ومن ثم كانت عناية الإسلام بدفع تلك المعاملة الجائرة ورفع هذه النظرة الهابطة.
5- وأخيراً فإن نظرة إلى التنوع في خصائص الأفراد واستعداداتهم- بعد بثهم من نفس واحدة وأسرة واحدة- على هذا المدى الواسع، الذي لا يتماثل فيه فردان قط تمام التماثل، على توالي العصور، وفيما لا يحصى عدده من الأفراد في جميع الأجيال.. التنوع في الأشكال والسمات والملامح. والتنوع في الطباع والأمزجة والأخلاق والمشاعر.
والتنوع في الاستعدادات والاهتمامات والوظائف.. إن نظرة إلى هذا التنوع المنبثق من ذلك التجمع لتشي بالقدرة المبدعة على غير مثال، المدبرة عن علم وحكمة، وتطلق القلب والعين يجولان في ذلك المتحف الحي العجيب، يتمليان ذلك الحشد من النماذج التي لا تنفد، والتي دائماً تتجدد، والتي لا يقدر عليها إلا الله، ولا يجرؤ أحد على نسبتها لغير الله. فالإرادة التي لا حد لما تريد، والتي تفعل ما تريد، هي وحدها التي تملك هذا التنويع الذي لا ينتهي، من ذلك الأصل الواحد الفريد!
والتأمل في الناس على هذا النحو كفيل بأن يمنح القلب زاداً من الأنس والمتاع فوق زاد الإيمان والتقوى.. وهو كسب فوق كسب، وارتفاع بعد ارتفاع!
وفي ختام آية الافتتاح التي توحي بكل هذه الحشود من الخواطر، يردّ الناس إلى تقوى الله، الذي يسأل بعضهم بعضاً به، وإلى تقوى الأرحام التي يرجعون إليها جميعاً:
{واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام}..
واتقوا الله الذي تتعاهدون باسمه، وتتعاقدون باسمه، ويسأل بعضكم بعضاً الوفاء باسمه، ويحلف بعضكم لبعض باسمه.. اتقوه فيما بينكم من الوشائج والصلات والمعاملات.
.. وتقوى الله مفهومة ومعهودة لتكرارها في القرآن. أما تقوى الأرحام، فهي تعبير عجيب. يلقي ظلاله الشعورية في النفس. ثم لا يكاد الإنسان يجد ما يشرح به تلك الظلال! اتقوا الأرحام. أرهفوا مشاعركم للإحساس بوشائجها. والإحساس بحقها. وتوقي هضمها وظلمها، والتحرج من خدشها ومسها.. توقوا أن تؤذوها، وأن تجرحوها، وأن تغضبوها.. أرهفوا حساسيتكم بها، وتوقيركم لها، وحنينكم إلى نداها وظلها.
ثم رقابة الله يختم بها الآية الموحية:
{إن الله كان عليكم رقيباً}..
وما أهولها رقابة! والله هو الرقيب! وهو الرب الخالق الذي يعلم من خلق، وهو العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية، لا في ظواهر الأفعال ولا في خفايا القلوب.
من هذا الافتتاح القوي المؤثر، ومن هذه الحقائق الفطرية البسيطة، ومن هذا الأصل الأساسي الكبير، يأخذ في إقامة الأسس التي ينهض عليها نظام المجتمع وحياته: من التكافل في الأسرة والجماعة، والرعاية لحقوق الضعاف فيها، والصيانة لحق المرأة وكرامتها، والمحافظة على أموال الجماعة في عمومها، وتوزيع الميراث على الورثة بنظام يكفل العدل للأفراد والصلاح للمجتمع..
ويبدأ فيأمر الأوصياء على اليتامى أن يردوا لهم أموالهم كاملة سالمة متى بلغوا سن الرشد. وألا ينكحوا القاصرات اللواتي تحت وصايتهم طمعاً في أموالهن. أما السفهاء الذين يُخْشَى من إتلافهم للمال، إذا هم تسلموه، فلا يعطى لهم المال، لأنه في حقيقته مال الجماعة، ولها فيه قيام ومصلحة، فلا يجوز أن تسلمه لمن يفسد فيه، وأن يراعوا العدل والمعروف في عشرتهم للنساء عامة.
{وآتوا اليتامى أموالهم، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم.
إنه كان حوباً كبيراً. وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة، أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألا تعولوا. وآتوا النساء صدقاتهن نحلة، فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هينئاً مريئاً. ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً، وارزقوهم فيها واكسوهم، وقولوا لهم قولاً معروفاً. وابتلوا اليتامى، حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم، ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا. ومن كان غنياً فليستعفف، ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف. فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم، وكفى بالله حسيباً}..
وتشي هذه التوصيات المشددة- كما قلنا- بما كان واقعاً في الجاهلية العربية من تضييع لحقوق الضعاف بصفة عامة. والأيتام والنساء بصفة خاصة.. هذه الرواسب التي ظلت باقية في المجتمع المسلم المقتطع أصلاً من المجتمع الجاهلي- حتى جاء القرآن يذيبها ويزيلها، وينشئ في الجماعة المسلمة تصورات جديدة، ومشاعر جديدة، وعرفاً جديداً، وملامح جديدة.
{وآتوا اليتامى أموالهم، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم، إنه كان حوباً كبيراً}..
أعطوا اليتامى أموالهم التي تحت أيديكم، ولا تعطوهم الرديء في مقابل الجيد. كأن تأخذوا أرضهم الجيدة، وتبدلوهم منها من أرضكم الرديئة، أو ماشيتهم، أو أسهمهم، أو نقودهم- وفي النقد الجيد ذو القيمة العالية والرديء ذو القيمة الهابطة- أو أي نوع من أنواع المال، فيه الجيد وفيه الرديء.. وكذلك لا تأكلوا أموالهم بضمها إلى أموالكم، كلها أو بعضها.. إن ذلك كله كان ذنباً كبيراً. والله يحذركم من هذا الذنب الكبير..
فلقد كان هذا كله يقع إذن في البيئة التي خوطبت بهذه الآية أول مرة. فالخطاب يشي بأنه كان موجهاً إلى مخاطبين فيهم من تقع منه هذه الأمور. وهي أثر مصاحب من آثار الجاهلية.. وفي كل جاهلية يقع مثل هذا. ونحن نرى أمثاله في جاهليتنا الحاضرة في المدن والقرى. وما تزال أموال اليتامى تؤكل بشتى الطرق، وشتى الحيل، من أكثر الأوصياء، على الرغم من كل الاحتياطات القانونية، ومن رقابة الهيئات الحكومية المخصصة للإشراف على أموال القصر. فهذه المسألة لا تفلح فيها التشريعات القانوينة، ولا الرقابة الظاهرية.. كلا لا يفلح فيها إلا أمر واحد.. التقوى.. فهي التي تكفل الرقابة الداخلية على الضمائر، فتصبح للتشريع قيمته وأثره. كما وقع بعد نزول هذه الآية، إذ بلغ التحرج من الأوصياء أن يعزلوا مال اليتيم عن مالهم، ويعزلوا طعامه عن طعامهم، مبالغة في التحرج والتوقي من الوقوع في الذنب العظيم، الذي حذرهم الله منه وهو يقول:
{إنه كان حوباً كبيراً}..
إن هذه الأرض لا تصلح بالتشريعات والتنظيمات.. ما لم يكن هناك رقابة من التقوى في الضمير لتنفيذ التشريعات والتنظيمات.
وهذه التقوى لا تجيش- تجاه التشريعات والتنظيمات- إلا حين تكون صادرة من الجهة المطلعة على السرائر، الرقيبة على الضمائر.. عندئذ يحس الفرد- وهو يهم بانتهاك حرمة القانون- أنه يخون الله، ويعصي أمره، ويصادم إرادته؛ وأن الله مطلع على نيته هذه وعلى فعله.. وعندئذ تتزلزل أقدامه، وترتجف مفاصله، وتجيش تقواه..
إن الله أعلم بعباده، وأعرف بفطرتهم، وأخبر بتكوينهم النفسي والعصبي- وهو خلقهم- ومن ثم جعل التشريع تشريعه، والقانون قانونه، والنظام نظامه، والمنهج منهجه، ليكون له في القلوب وزنه وأثره ومخافته ومهابته.. وقد علم- سبحانه- أنه لا يطاع أبداً شرع لا يرتكن إلى هذه الجهة التي تخشاها وترجوها القلوب، وتعرف أنها مطلعة على خفايا السرائر وخبايا القلوب. وأنه مهما أطاع العبيد تشريع العبيد، تحت تأثير البطش والإرهاب، والرقابة الظاهرية التي لا تطلع على الأفئدة، فإنهم لا بد متفلتون منها كلما غافلوا الرقابة، وكلما واتتهم الحيلة.. مع شعورهم دائماً بالقهر والكبت والتهيؤ للانتقاض..
{وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع. فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة، أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألا تعولوا}..
عن عروة بن الزبير رضي الله عنه أنه سأل عائشة- رضي الله عنها- عن قوله تعالى: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} فقالت: «يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا اليهن؛ ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا من النساء سواهن» قال عروة: قالت عائشة: «وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، فأنزل الله: {ويستفتونك في النساء. قل الله يفتيكم فيهن.. وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن...} قالت عائشة: وقول الله في هذه الآية الأخرى {وترغبون أن تنكحوهن} رغبة أحدكم عن يتيمته إذا كانت قليلة المال والجمال. فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال».
وحديث عائشة- رضي الله عنها- يصور جانباً من التصورات والتقاليد التي كانت سائدة في الجاهلية، ثم بقيت في المجتمع المسلم، حتى جاء القرآن ينهى عنها ويمحوها، بهذه التوجيهات الرفيعة، ويكل الأمر إلى الضمائر، وهو يقول: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى}.. فهي مسألة تحرج وتقوى وخوف من الله إذا توقع الولي ألا يعدل مع اليتيمة في حجره، ونص الآية مطلق لا يحدد مواضع العدل، فالمطلوب هو العدل في كل صوره وبكل معانيه في هذه الحالة، سواء فيما يختص بالصداق، أو فيما يتعلق بأي اعتبار آخر.
كأن ينكحها رغبة في مالها، لا لأن لها في قلبه مودة. ولا لأنه يرغب رغبة نفسية في عشرتها لذاتها. وكأن ينكحها وهناك فارق كبير من السن لا تستقيم معه الحياة، دون مراعاة لرغبتها هي في إبرام هذا النكاح، هذه الرغبة التي قد لا تفصح عنها حياء أو خوفاً من ضياع مالها إذا هي خالفت عن إرادته.. إلى آخر تلك الملابسات التي يخشى ألا يتحقق فيها العدل.. والقرآن يقيم الضمير حارساً والتقوى رقيباً. وقد أسلف في الآية السابقة التي رتب عليها هذه التوجيهات كلها قوله: {إن الله كان عليكم رقيباً}..
فعندما لا يكون الأولياء واثقين من قدرتهم على القسط مع اليتيمات اللواتي في حجورهم، فهناك النساء غيرهن، وفي المجال متسع للبعد عن الشبهة والمظنة:
{وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع. فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم. ذلك أدنى ألا تعولوا}..
وهذه الرخصة في التعدد، مع هذا التحفظ عند خوف العجز عن العدل، والاكتفاء بواحدة في هذه الحالة، أو بما ملكت اليمين..
هذه الرخصة- مع هذا التحفظ- يحسن بيان الحكمة والصلاح فيها. في زمان جعل الناس يتعالمون فيه على ربهم الذي خلقهم، ويدعون لأنفسهم بصراً بحياة الإنسان وفطرته ومصلحته فوق بصر خالقهم سبحانه! ويقولون في هذا الأمر وذاك بالهوى والشهوة، وبالجهالة والعمى. كأن ملابسات وضرورات جدّت اليوم، يدركونها هم ويقدرونها ولم تكن في حساب الله- سبحانه- ولا في تقديره، يوم شرّع للناس هذه الشرائع!!!
وهي دعوى فيها من الجهالة والعمى بقدر ما فيها من التبجح وسوء الأدب بقدر ما فيها من الكفر والضلالة! ولكنها تقال، ولا تجد من يرد الجهال العمي المتبجحين المتوقحين الكفار الضلال عنها! وهم يتبجحون على الله وشريعته، ويتطاولون على الله وجلاله، ويتوقحون على الله ومنهجه، آمنين سالمين غانمين، مأجورين من الجهات التي يهمها أن تكيد لهذا الدين!
وهذه المسألة- مسألة إباحة تعدد الزوجات بذلك التحفظ الذي قرره الإسلام- يحسن أن تؤخذ بيسر ووضوح وحسم؛ وأن تعرف الملابسات الحقيقية والواقعية التي تحيط بها..
روى البخاري- بإسناده- «أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم- وتحته عشر نسوة- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اختر منهن أربعاً». وروى أبو داود- بإسناده- «أن عميرة الأسدي قال: أسلمت وعندي ثماني نسوة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: اختر منهن أربعاً».
وقال الشافعي في مسنده: أخبرني من سمع ابن أبي الزياد يقول: أخبرني عبد المجيد عن ابن سهل ابن عبد الرحمن، عن عوف بن الحارث،
«عن نوفل بن معاوية الديلمي، قال: أسلمت وعندي خمس نسوة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اختر أربعاً أيتهن شئت وفارق الأخرى».
فقد جاء الإسلام إذن، وتحت الرجال عشر نسوة أو أكثر أو أقل- بدون حد ولا قيد- فجاء ليقول للرجال: إن هناك حداً لا يتجاوزه المسلم- هو أربع- وإن هناك قيداً- هو إمكان العدل- وإلا فواحدة.. أو ما ملكت أيمانكم..
جاء الإسلام لا ليطلق، ولكن ليحدد.. ولا ليترك الأمر لهوى الرجل، ولكن ليقيد التعدد بالعدل. وإلا امتنعت الرخصة المعطاة!
ولكن لماذا أباح هذه الرخصة؟
إن الإسلام نظام للإنسان. نظام واقعي إيجابي. يتوافق مع فطرة الإنسان وتكوينه، ويتوافق مع واقعه وضروراته، ويتوافق مع ملابسات حياته المتغيرة في شتى البقاع وشتى الأزمان، وشتى الأحوال.
إنه نظام واقعي إيجابي، يلتقط الإنسان من واقعه الذي هو فيه، ومن موقفه الذي هو عليه، ليرتفع به في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة. في غير إنكار لفطرته أو تنكر؛ وفي غير إغفال لواقعه أو إهمال؛ وفي غير عنف في دفعه أو اعتساف!
إنه نظام لا يقوم على الحذلقة الجوفاء؛ ولا على التظرف المائع؛ ولا على المثالية الفارغة؛ ولا على الأمنيات الحالمة، التي تصطدم بفطرة الإنسان وواقعه وملابسات حياته، ثم تتبخر في الهواء!
وهو نظام يرعى خلق الإنسان، ونظافة المجتمع، فلا يسمح بإنشاء واقع مادي، من شأنه انحلال الخلق، وتلويث المجتمع، تحت مطارق الضرورة التي تصطدم بذلك الواقع. بل يتوخى دائماً أن ينشئ واقعاً يساعد على صيانة الخلق، ونظافة المجتمع، مع أيسر جهد يبذله الفرد ويبذله المجتمع.
فإذا استصحبنا معنا هذه الخصائص الأساسية في النظام الإسلامي، ونحن ننظر إلى مسألة تعدد الزوجات.. فماذا نرى؟
نرى.. أولاً.. أن هناك حالات واقعية في مجتمعات كثيرة- تاريخية وحاضرة- تبدو فيها زيادة عدد النساء الصالحات للزواج، على عدد الرجال الصالحين للزواج.. والحد الأعلى لهذا الاختلال الذي يعتري بعض المجتمعات لم يُعرف تاريخياً أنه تجاوز نسبة أربع إلى واحد. وهو يدور دائماً في حدودها.
فكيف نعالج هذا الواقع، الذي يقع ويتكرر وقوعه، بنسب مختلفة. هذا الواقع الذي لا يجدي فيه الإنكار؟
نعالجه بهز الكتفين؟ أو نتركه يعالج نفسه بنفسه؟ حسب الظروف والمصادفات؟!
إن هز الكتفين لا يحل مشكلة! كما أن ترك المجتمع يعالج هذا الواقع حسبما اتفق لا يقول به إنسان جاد، يحترم نفسه، ويحترم الجنس البشري!
ولا بد إذن من نظام، ولا بد إذن من إجراء..
وعندئذ نجد أنفسنا أمام احتمال من ثلاثة احتمالات:
1- أن يتزوج كل رجل صالح للزواج امرأة من الصالحات للزواج.
ثم تبقى واحدة أو أكثر- حسب درجة الاختلال الواقعة- بدون زواج، تقضي حياتها- أو حياتهن- لا تعرف الرجال!
2- أن يتزوج كل رجل صالح للزواج واحدة فقط زواجاً شرعياً نظيفاً. ثم يخادن أو يسافح واحدة أو أكثر، من هؤلاء اللواتي ليس لهن مقابل في المجتمع من الرجال. فيعرفن الرجل خدينا أو خليلاً في الحرام والظلام!
3- أن يتزوج الرجال الصالحون- كلهم أو بعضهم- أكثر من واحدة. وأن تعرف المرأة الأخرى الرجل، زوجة شريفة، في وضح النور لا خدينة وولا خليلة في الحرام والظلام!
الاحتمال الأول ضد الفطرة وضد الطاقة بالقياس إلى المرأة التي لا تعرف في حياتها الرجال. ولا يدفع هذه الحقيقة ما يتشدق به المتشدقون من استغناء المرأة عن الرجل بالعمل والكسب. فالمسألة أعمق بكثير مما يظنه هؤلاء السطحيون المتحذلقون المتظرفون الجهال عن فطرة الإنسان. وألف عمل وألف كسب لا تغني المرأة عن حاجتها الفطرية إلى الحياة الطبيعية.. سواء في ذلك مطالب الجسد والغريزة ومطالب الروح والعقل من السكن والأنس بالعشير.. والرجل يجد العمل ويجد الكسب؛ ولكن هذا لا يكفيه فيروح يسعى للحصول على العشيرة والمرأة كالرجل- في هذا- فهما من نفس واحدة!
والاحتمال الثاني ضد اتجاه الإسلام النظيف؛ وضد قاعدة المجتمع الإسلامي العفيف؛ وضد كرامة المرأة الإنسانية. والذين لا يحفلون أن تشيع الفاحشة في المجتمع هم أنفسهم الذين يتعالمون على الله ويتطاولون على شريعته. لأنهم لا يجدون من يردعهم عن هذا التطاول. بل يجدون من الكائدين لهذا الدين كل تشجيع وتقدير!
والاحتمال الثالث هو الذي يختاره الإسلام. يختاره رخصة مقيدة. لمواجهة الواقع الذي لا ينفع فيه هز الكتفين؛ ولا تنفع فيه الحذلقة والادعاء. يختاره متمشياً مع واقعيته الإيجابية في مواجهة الإنسان كما هو- بفطرته وظروف حياته- ومع رعايته للخلق النظيف والمجتمع المتطهر ومع منهجه في التقاط الإنسان من السفح والرقي به في الدرج الصاعد إلى القمة السامقة. ولكن في يسر ولين وواقعية!
ثم نرى.. ثانياً.. في المجتمعات الإنسانية. قديماً وحديثاً. وبالأمس واليوم والغد. إلى آخر الزمان. واقعاً في حياة الناس لا سبيل إلى إنكاره كذلك أو تجاهله.
نرى أن فترة الإخصاب في الرجل تمتد إلى سن السبعين أو ما فوقها. بينما هي تقف في المرأة عند سن الخمسين أو حواليها. فهناك في المتوسط عشرون سنة من سني الإخصاب في حياة الرجل لا مقابل لها في حياة المرأة. وما من شك أن من أهداف اختلاف الجنسين ثم التقائهما امتداد الحياة بالإخصاب والإنسال، وعمران الأرض بالتكاثر والانتشار. فليس مما يتفق مع هذه السنة الفطرية العامة أن نكف الحياة عن الانتفاع بفترة الإخصاب الزائدة في الرجال.
ولكن مما يتفق مع هذا الواقع الفطري أن يسن التشريع- الموضوع لكافة البيئات في جميع الأزمان والأحوال- هذه الرخصة- لا على سبيل الإلزام الفردي ولكن على سبيل إيجاد المجال العام الذي يلبي هذا الواقع الفطري ويسمح للحياة أن تنتفع به عند الاقتضاء.. وهو توافق بين واقع الفطرة وبين اتجاه التشريع ملحوظ دائماً في التشريع الإلهي. لا يتوافر عادة في التشريعات البشرية لأن الملاحظة البشرية القاصرة لا تنتبه له ولا تدرك جميع الملابسات القريبة والبعيدة ولا تنظر من جميع الزوايا ولا تراعي جميع الاحتمالات.
ومن الحالات الواقعية- المرتبطة بالحقيقة السالفة- ما نراه أحياناً من رغبة الزوج في أداء الوظيفة الفطرية مع رغبة الزوجة عنها- لعائق من السن أو من المرض- مع رغبة الزوجين كليهما في استدامة العشرة الزوجية وكراهية الانفصال- فكيف نواجه مثل هذه الحالات؟
نواجهها بهز الكتفين؛ وترك كل من الزوجين يخبط رأسه في الجدار؟! أو نواجهها بالحذلقة الفارغة والتظرف السخيف؟
إن هز الكتفين- كما قلنا- لا يحل مشكلة. والحذلقة والتظرف لا يتفقان مع جدية الحياة الإنسانية ومشكلاتها الحقيقية..
وعندئذ نجد أنفسنا- مرة أخرى- أمام احتمال من ثلاثة احتمالات:
1- أن نكبت الرجل ونصده عن مزاولة نشاطه الفطري بقوة التشريع وقوة السلطان! ونقول له: عيب يا رجل! إن هذا لا يليق ولا يتفق مع حق المرأة التي عندك ولا مع كرامتها!
2- أن نطلق هذا الرجل يخادن ويسافح من يشاء من النساء!
3- أن نبيح لهذا الرجل التعدد- وفق ضرورات الحال- ونتوقى طلاق الزوجة الأولى..
الاحتمال الأول ضد الفطرة وفوق الطاقة وضد احتمال الرجل العصبي والنفسي. وثمرته القريبة- إذا نحن أكرهناه بحكم التشريع وقوة السلطان- هي كراهية الحياة الزوجية التي تكلفه هذا العنت ومعاناة جحيم هذه الحياة.. وهذه ما يكرهه الإسلام الذي يجعل من البيت سكناً ومن الزوجة أنساً ولباساً.
والاحتمال الثاني ضد اتجاه الإسلام الخلقي وضد منهجه في ترقية الحياة البشرية ورفعها وتطهيرها وتزكيتها كي تصبح لائقة بالإنسان الذي كرمه الله على الحيوان!
والاحتمال الثالث هو وحده الذي يلبي ضرورات الفطرة الواقعية ويلبي منهج الإسلام الخلقي ويحتفظ للزوجة الأولى برعاية الزوجية ويحقق رغبة الزوجين في الإبقاء على عشرتهما وعلى ذكرياتهما وييسر على الإنسان الخطو الصاعد في رفق ويسر وواقعية.
وشيء كهذا يقع في حالة عقم الزوجة مع رغبة الزوج الفطرية في النسل. حيث يكون أمامه طريقان لا ثالث لهما:
1- أن يطلقها ليستبدل بها زوجة أخرى تلبي رغبة الإنسان الفطرية في النسل.
2- أو أن يتزوج بأخرى ويبقي على عشرته مع الزوجة الأولى.
وقد يهذر قوم من المتحذلقين- ومن المتحذلقات- بإيثار الطريق الأول.
ولكنّ تسعاً وتسعين زوجة- على الأقل- من كل مائة سيتوجهن باللعنة إلى من يشير على الزوج بهذا الطريق! الطريق الذي يحطم عليهن بيوتهن بلا عوض منظور- فقلما تجد العقيم وقد تبين عقمها راغباً في الزواج- وكثيراً ما تجد الزوجة العاقر أنساً واسترواحاً في الأطفال الصغار تجيء بهم الزوجة الأخرى من زوجها فيملأون عليهم الدار حركة وبهجة أياً كان ابتئاسها لحرمانها الخاص.
وهكذا حيثما ذهبنا نتأمل الحياة الواقعية بملابساتها العملية التي لا تصغي للحذلقة ولا تستجيب للهذر ولا تستروح للهزل السخيف والتميع المنحل في مواضع الجد الصارم.. وجدنا مظاهر الحكمة العلوية في سن هذه الرخصة مقيدة بذلك القيد:
{فانكحوا ما طاب لكم من النساء- مثنى وثلاث ورباع- فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} فالرخصة تلبي واقع الفطرة وواقع الحياة؛ وتحمي المجتمع من الجنوح- تحت ضغط الضرورات الفطرية والواقعية المتنوعة- إلى الانحلال أو الملال.. والقيد يحمي الحياة الزوجية من الفوضى والاختلال ويحمي الزوجة من الجور والظلم؛ ويحمي كرامة المرأة أن تتعرض للمهانة بدون ضرورة ملجئة واحتياط كامل. ويضمن العدل الذي تحتمل معه الضرورة ومقتضياتها المريرة.
إن أحداً يدرك روح الإسلام واتجاهه، لا يقول إن التعدد مطلوب لذاته مستحب بلا مبرر من ضرورة فطرية أو اجتماعية؛ وبلا دافع إلا التلذذ الحيواني وإلا التنقل بين الزوجات كما يتنقل الخليل بين الخليلات. إنما هو ضرورة تواجه ضرورة وحل يواجه مشكلة. وهو ليس متروكاً للهوى بلا قيد ولا حد في النظام الإسلامي الذي يواجه كل واقعيات الحياة.
فإذا انحرف جيل من الأجيال في استخدام هذه الرخصة. إذا راح رجال يتخذون من هذه الرخصة فرصة لإحالة الحياة الزوجية مسرحاً للذة الحيوانية. إذا أمسوا يتنقلون بين الزوجات كما يتنقل الخليل بين الخليلات. إذا أنشأوا الحريم في هذه الصورة المريبة.. فليس ذلك شأن الإسلام؛ وليس هؤلاء هم الذين يمثلون الإسلام.. إن هؤلاء إنما انحدروا إلى هذا الدرك لأنهم بعدوا عن الإسلام ولم يدركوا روحه النظيف الكريم. والسبب أنهم يعيشون في مجتمع لا يحكمه الإسلام ولا تسيطر فيه شريعته. مجتمع لا تقوم عليه سلطة مسلمة تدين للإسلام وشريعته؛ وتأخذ الناس بتوجيهات الإسلام وقوانينه وآدابه وتقاليده.
إن المجتمع المعادي للإسلام المتفلت من شريعته وقانونه هو المسؤول الأول عن هذه الفوضى. هو المسؤول الأول عن الحريم في صورته الهابطة المريبة. هو المسؤول الأول عن اتخاذ الحياة الزوجية مسرح لذة بهيمية. فمن شاء أن يصلح هذه الحال فليرد الناس إلى الإسلام وشريعة الإسلام ومنهج الإسلام؛ فيردهم إلى النظافة والطهارة والاستقامة والاعتدال.. من شاء الإصلاح فليرد الناس إلى الإسلام لا في هذه الجزئية ولكن في منهج الحياة كلها.
فالإسلام نظام متكامل لا يعمل إلا وهو كامل شامل..
والعدل المطلوب هو العدل في المعاملة والنفقة والمعاشرة والمباشرة. أما العدل في مشاعر القلوب وأحاسيس النفوس فلا يطالب به أحد من بني الإنسان، لأنه خارج عن إرادة الإنسان.. وهو العدل الذي قال الله عنه في الآية الأخرى في هذه السورة: {ولن تستيطعوا أن تعدلوا بين النساء- ولو حرصتم- فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة} هذه الآية التي يحاول بعض الناس أن يتخذوا منها دليلاً على تحريم التعدد. والأمر ليس كذلك. وشريعة الله ليست هازلة حتى تشرع الأمر في آية وتحرمه في آية بهذه الصورة التي تعطي باليمين وتسلب بالشمال! فالعدل المطلوب في الآية الأولى؛ والذي يتعين عدم التعدد إذا خيف ألا يتحقق؛ هو العدل في المعاملة والنفقة والمعاشرة والمباشرة وسائر الأوضاع الظاهرة بحيث لا ينقص إحدى الزوجات شيء منها؛ وبحيث لا تؤثر واحدة دون الأخرى بشيء منها.. على نحو ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أرفع إنسان عرفته البشرية يقوم به. في الوقت الذي لم يكن أحد يجهل من حوله ولا من نسائه أنه يحب عائشة- رضي الله عنها- ويؤثرها بعاطفة قلبية خاصة لا تشاركها فيها غيرها.. فالقلوب ليست ملكاً لأصحابها. إنما هي بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.. وقد كان صلى الله عليه وسلم يعرف دينه ويعرف قلبه. فكان يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك».
ونعود فنكرر قبل أن نتجاوز هذه النقطة أن الإسلام لم ينشئ التعدد إنما حدده. ولم يأمر بالتعدد إنما رخص فيه وقيده. وأنه رخص فيه لمواجهة واقعيات الحياة البشرية وضرورات الفطرة الإنسانية. هذه الضرورات وتلك الواقعيات التي ذكرنا بعض ما تكشف لنا حتى الآن منه


مضى الشوط الأول من السورة يعالج تنظيم حياة المجتمع المسلم واستنقاذه من رواسب الجاهلية بإقامة الضمانات لليتامى وأموالهم وأنفسهم في محيط الأسرة وفي محيط الجماعة يعالج نظام التوارث في المحيط العائلي ويرد تلك الضمانات وهذا النظام إلى مصدرهما الأساسي: وهو ألوهية الله للبشر وربوبيته للناس وإرادته من خلقهم جميعاً من نفس واحدة وإقامة المجتمع الإنساني على قاعدة الأسرة وعلى أساس التكافل. وردهم في كل شؤون حياتهم إلى حدود الله وعلمه وحكمته ومجازاتهم على أساس طاعته في هذا كله أو معصيته.
فأما هذا الشوط الثاني فيمضي في تنظيم حياة المجتمع المسلم واستنقاذه من رواسب الجاهلية بتطهير هذا المجتمع من الفاحشة وعزل العناصر الملوثة التي تقارفها من الرجال والنساء مع فتح باب التوبة لمن يشاء من هذه العناصر أن يتوب ويتطهر ويرجع إلى المجتمع نظيفاً عفيفاً.. ثم باستنقاذ المرأة مما كانت ترزح تحته في الجاهلية من خسف وهوان ومن عسف وظلم حتى تقوم الأسرة على أساس سليم ركين ومن ثم يقوم المجتمع- وقاعدته الأسرة- على أرض صلبة وفي جو نظيف عفيف.. وأخيراً ينظم جانباً من حياة الأسرة ببيان المحرمات في الشريعة الإسلامية وبيان ما وراءهن من الحلال.
وبهذا البيان ينتهي هذا الشوط وينتهي هذا الجزء كذلك.
{واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم. فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً. واللذان يأتيانها منكم فآذوهما. فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما. إن الله كان تواباً رحيماً}..
إن الإسلام يمضي هنا على طريقه في تطهير المجتمع وتنظيفه؛ وقد اختار- في أول الأمر- عزل الفاحشات من النسوة، وإبعادهن عن المجتمع متى ثبت عليهن ارتكاب الفاحشة. وإيذاء الرجال الذين يأتون الفاحشة الشاذة ويعملون عمل قوم لوط. ولم يحدد نوع الإيذاء ومداه. ثم اختار- فيما بعد- عقاب هؤلاء النسوة وعقاب الرجال أيضاً عقوبة واحدة هي حد الزنا كما ورد في آية سورة النور وهي الجلد؛ وكما جاءت بها السنة أيضاً وهي الرجم. والهدف الأخير من هذه أو تلك هو صيانة المجتمع من التلوث والمحافظة عليه نظيفاً عفيفاً شريفاً.
وفي كل حالة وفي كل عقوبة يوفر التشريع الإسلامي الضمانات التي يتعذر معها الظلم والخطأ والأخذ بالظن والشبهة؛ في عقوبات خطيرة تؤثر في حياة الناس تأثيراً خطيراً.
{واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم. فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً}..
وفي النص دقة واحتياط بالغان. فهو يحدد النساء اللواتي ينطبق عليهن الحد: {من نسائكم}- أي المسلمات- ويحدد نوع الرجال الذين يستشهدون على وقوع الفعل: {من رجالكم}- أي المسلمين- فحسب هذا النص يتعين من توقع عليهن العقوبة إذا ثبت الفعل.
ويتعين من تطلب إليهم الشهادة على وقوعه.
إن الإسلام لا يستشهد على المسلمات- حين يقعن في الخطيئة- رجالاً غير مسلمين. بل لا بد من أربعة رجال مسلمين. منكم. من هذا المجتمع المسلم. يعيشون فيه ويخضعون لشريعته ويتبعون قيادته ويهمهم أمره ويعرفون ما فيه ومن فيه. ولا تجوز في هذا الأمر شهادة غير المسلم لأنه غير مأمون على عرض المسلمة وغير موثوق بأمانته وتقواه ولا مصلحة له ولا غيرة كذلك على نظافة هذا المجتمع وعفته ولا على إجراء العدالة فيه. وقد بقيت هذه الضمانات في الشهادة حين تغير الحكم وأصبح هو الجلد أو الرجم..
{فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت}..
لا يختلطن بالمجتمع ولا يلوثنه ولا يتزوجن ولا يزاولن نشاطاً..
{حتى يتوفاهن الموت}..
فينتهي أجلهن وهن على هذه الحال من الإمساك في البيوت.
{أو يجعل الله لهن سبيلاً}..
فيغير ما بهن أو يغير عقوبتهن أو يتصرف في أمرهن بما يشاء.. مما يشعر أن هذا ليس الحكم النهائي الدائم وإنما هو حكم فترة معينة وملابسات في المجتمع خاصة. وأنه يتوقع صدور حكم آخر ثابت دائم. وهذا هو الذي وقع بعد ذلك فتغير الحكم كما ورد في سورة النور وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم تتغير الضمانات المشددة في تحقيق الجريمة.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت. قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي أثر عليه وكرب لذلك وتغير وجهه. فأنزل الله عليه عز وجل ذات يوم فلما سري عنه قال: «خذوا عني.. قد جعل الله لهن سبيلاً.. الثيب بالثيب والبكر بالبكر. الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة. والبكر جلد مائة ثم نفي سنة». وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن قتادة عن الحسن عن حطان عن عبادة بن الصامت. عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: «خذوا عني. خذوا عني. قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة». وقد ورد عن السنة العملية في حادث ماعز والغامدية كما ورد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رجمهما ولم يجلدهما. وكذلك في حادث اليهودي واليهودية اللذين حكم في قضيتهما فقضى برجمهما ولم يجلدهما.. فدلت سنته العملية على أن هذا هو الحكم الأخير:
{واللذان يأتيانها منكم فآذوهما. فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان تواباً رحيماً}.
والأوضح أن المقصود بقوله تعالى {واللذان يأتيانها منكم...} هما الرجلان يأتيان الفاحشة الشاذة. وهو قول مجاهد رضي الله عنه وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما: {فآذوهما}: هو الشتم والتعيير والضرب بالنعال!
{فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما}..
فالتوبة والإصلاح- كما سيأتي- تعديل أساسي في الشخصية والكينونة والوجهة والطريق والعمل والسلوك. ومن ثم تقف العقوبة وتكف الجماعة عن إيذاء هذين المنحرفين الشاذين. وهذا هو الإعراض عنهما في هذا الموضع: أي الكف عن الإيذاء.
والإيماءة اللطيفة العميقة:
{إن الله كان تواباً رحيماً}..
وهو الذي شرع العقوبة وهو الذي يأمر بالكف عنها عند التوبة والإصلاح. ليس للناس من الأمر شيء في الأولى وليس لهم من الأمر شيء في الأخيرة. إنما هم ينفذون شريعة الله وتوجيهه. وهو تواب رحيم. يقبل التوبة ويرحم التائبين.
واللمسة الثانية في هذه الإيماءة هي توجيه قلوب العباد للاقتباس من خلق الله والتعامل فيما بينهم بهذا الخلق. وإذا كان الله تواباً رحيماً فينبغي لهم أن يكونوا هم فيما بينهم متسامحين رحماء؛ أمام الذنب الذي سلف وأعقبه التوبة والإصلاح. إنه ليس تسامحاً في الجريمة وليس رحمة بالفاحشين. فهنا لا تسامح ولا رحمة. ولكن سماحة ورحمة بالتائبين المتطهرين المصلحين وقبولهم في المجتمع وعدم تذكيرهم وتعييرهم بما كان منهم من ذنب تابوا عنه وتطهروا منه وأصلحوا حالهم بعده فينبغي- حينئذ- مساعدتهم على استئناف حياة طيبة نظيفة كريمة ونسيان جريمتهم حتى لا تثير في نفوسهم التأذي كلما واجهوا المجتمع بها؛ مما قد يحمل بعضهم على الانتكاس والارتكاس واللجاج في الخطيئة وخسارة أنفسهم في الدنيا والآخرة. والإفساد في الأرض وتلويث المجتمع والنقمة عليه في ذات الأوان.
وقد عدلت هذه العقوبة كذلك- فيما بعد- فروى أهل السنن حديثاً مرفوعاً عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به».
وتبدو في هذه الأحكام عناية المنهج الإسلامي بتطهير المجتمع المسلم من الفاحشة؛ ولقد جاءت هذه العناية مبكرة: فالإسلام لم ينتظر حتى تكون له دولة في المدينة وسلطة تقوم على شريعة الله وتتولاها بالتنفيذ. فقد ورد النهي عن الزنا في سورة الإسراء المكية: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} كما ورد في سورة المؤمنون: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} {والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم فإنهم غير ملومين} وكرر هذا القول في سورة المعارج.
ولكن الإسلام لم تكن له في مكة دولة ولم تكن له فيها سلطة؛ فلم يسن العقوبات لهذه الجريمة التي نهى عنها في مكة إلا حين استقامت له الدولة والسلطة في المدينة ولم يعتبر النواهي والتوجيهات وحدها كافية لمكافحة الجريمة وصيانة المجتمع من التلوث.
لأن الإسلام دين واقعي يدرك أن النواهي والتوجيهات وحدها لا تكفي ويدرك أن الدين لا يقوم بدون دولة وبدون سلطة. وإن الدين هو المنهج أو النظام الذي تقوم عليه حياة الناس العملية وليس مجرد مشاعر وجدانية تعيش في الضمير بلا سلطة وبلا تشريع وبلا منهج محدد ودستور معلوم!
ومنذ أن استقرت العقيدة الإسلامية في بعض القلوب في مكة أخذت هذه العقيدة تكافح الجاهلية في هذه القلوب وتطهرها وتزكيها. فلما أن أصبحت للإسلام دولة في المدينة وسلطة تقوم على شريعة معلومة وتحقق في الأرض منهج الله في صورة محددة أخذ يزاول سلطته في صون المجتمع من الفاحشة عن طريق العقوبة والتأديب- إلى جانب التوجيه والموعظة- فالإسلام كما قلنا ليس مجرد اعتقاد وجداني في الضمير إنما هو- إلى جانب ذلك- سلطان ينفذ في واقع الحياة ذلك الاعتقاد الوجداني ولا يقوم أبداً على ساق واحدة.
وكذلك كان كل دين جاء من عند الله. على عكس ما رسخ خطأ في بعض الأذهان من أن هناك أدياناً سماوية جاءت بغير شريعة وبغير نظام، وبغير سلطان.. كلا! فالدين منهج للحياة. منهج واقعي عملي. يدين الناس فيه لله وحده ويتلقون فيه من الله وحده. يتلقون التصور الاعتقادي والقيم الأخلاقية كما يتلقون الشرائع التي تنظم حياتهم العملية. وتقوم على هذه الشرائع سلطة تنفذها بقوة السلطان في حياة الناس وتؤدب الخارجين عليها وتعاقبهم وتحمي المجتمع من رجس الجاهلية. لتكون الدينونة لله وحده ويكون الدين كله لله. أي لا تكون هناك آلهة غيره- في صورة من الصور- آلهة تشرع للناس وتضع لهم القيم والموازين والشرائع والأنظمة. فالإله هو الذي يصنع هذا كله. وأيما مخلوق ادعى لنفسه الحق في شيء من هذا فقد ادعى لنفسه الألوهية على الناس.. وما من دين من عند الله يسمح لبشر أن يكون إلهاً وأن يدعي لنفسه هذه الدعوى ويباشرها.. ومن ثم فإنه ما من دين من عند الله يجيء اعتقاداً وجدانياً صرفاً بلا شريعة عملية وبلا سلطان ينفذ به هذه الشريعة!
وهكذا أخذ الإسلام في المدينة يزاول وجوده الحقيقي؛ بتطهير المجتمع عن طريق التشريع والتنفيذ والعقوبة والتأديب. على نحو ما رأينا في هذه الأحكام التي تضمنتها هذه السورة والتي عدلت فيما بعد ثم استقرت على ذلك التعديل. كما أرادها الله.
ولا عجب في هذه العناية الظاهرة بتطهير المجتمع من هذه الفاحشة؛ والتشدد الظاهر في مكافحتها بكل وسيلة. فالسمة الأولى للجاهلية- في كل زمان- كما نرى في جاهليتنا الحاضرة التي تعم وجه الأرض- هي الفوضى الجنسية والانطلاق البهيمي بلا ضابط من خلق أو قانون.
واعتبار هذه الاتصالات الجنسية الفوضوية مظهراً من مظاهر الحرية الشخصية لا يقف في وجهها إلا متعنت! ولا يخرج عليها إلا متزمت!
ولقد يتسامح الجاهليون في حرياتهم الإنسانية كلها ولا يتسامحون في حريتهم البهيمية هذه! وقد يتنازلون عن حرياتهم تلك كلها ولكنهم يهبون في وجه من يريد أن ينظم لهم حريتهم البهيمية ويطهرها!
وفي المجتمعات الجاهلية تتعاون جميع الأجهزة على تحطيم الحواجز الأخلاقية وعلى إفساد الضوابط الفطرية في النفس الإنسانية وعلى تزيين الشهوات البهيمية ووضع العناوين البريئة لها وعلى إهاجة السعار الجنسي بشتى الوسائل ودفعه إلى الإفضاء العملي بلا ضابط وعلى توهين ضوابط الأسرة ورقابتها وضوابط المجتمع ورقابته وعلى ترذيل المشاعر الفطرية السليمة التي تشمئز من الشهوات العارية وعلى تمجيد هذه الشهوات وتمجيد العري العاطفي والجسدي والتعبيري!
كل هذا من سمات الجاهلية الهابطة التي جاء الإسلام ليطهر المشاعر البشرية والمجتمعات البشرية منها. وهي هي بعينها سمة كل جاهلية.. والذي يراجع أشعار امرئ القيس في جاهلية العرب يجد لها نظائر في أشعار الجاهلية الإغريقية والجاهلية الرومانية.. كما يجد لها نظائر في الآداب والفنون المعاصرة في جاهلية العرب والجاهليات الأخرى المعاصرة أيضاً! كما أن الذي يراجع تقاليد المجتمع وتبذل المرأة ومجون العشاق وفوضى الاختلاط في جميع الجاهليات قديمها وحديثها يجد بينها كلها شبهاً ورابطة ويجدها تنبع من تصورات واحدة وتتخذ لها شعارات متقاربة!
ومع أن هذا الانطلاق البهيمي ينتهي دائماً بتدمير الحضارة وتدمير الأمة التي يشيع فيها- كما وقع في الحضارة الإغريقية والحضارة الرومانية والحضارة الفارسية قديماً- وكما يقع اليوم في الحضارة الأوربية وفي الحضارة الأمريكية كذلك وقد أخذت تتهاوى على الرغم من جميع مظاهر التقدم الساحق في الحضارة الصناعية. الأمر الذي يفزع العقلاء هناك. وإن كانوا يشعرون- كما يبدو من أقوالهم- بأنهم أعجز من الوقوف في وجه التيار المدمر!
مع أن هذه هي العاقبة فإن الجاهليين- في كل زمان وفي كل مكان- يندفعون إلى الهاوية ويقبلون أن يفقدوا حرياتهم الإنسانية كلها أحياناً ولا يقبلون أن يقف حاجز واحد في طريق حريتهم البهيمية. ويرضون أن يستعبدوا استعباد العبيد ولا يفقدوا حق الانطلاق الحيواني!
وهو ليس انطلاقاً وليس حرية. إنما هي العبودية للميل الحيواني والانتكاس إلى عالم البهيمة! بل هم أضل! فالحيوان محكوم- في هذا- بقانون الفطرة التي تجعل للوظيفة الجنسية مواسم لا تتعداها في الحيوان، وتجعلها مقيدة دائماً بحكمة الإخصاب والإنسال. فلا تقبل الأنثى الذكر إلا في موسم الإخصاب ولا يهاجم الذكر الأنثى إلا وهي على استعداد! أما الإنسان فقد تركه الله لعقله؛ وضبط عقله بعقيدته. فمتى انطلق من العقيدة ضعف عقله أمام الضغط ولم يصبح قادراً على كبح جماح النزوة المنطلقة في كيانه.
ومن ثم يستحيل ضبط هذا الاندفاع وتطهير وجه المجتمع من هذا الرجس إلا بعقيدة تمسك بالزمام وسلطان يستمد من هذه العقيدة وسلطة تأخذ الخارجين المتبجحين بالتأديب والعقوبة. وترد الكائن البشري بل ترفعه من درك البهيمة إلى مقام الإنسان الكريم على الله.
والجاهلية التي تعيش فيها البشرية تعيش بلا عقيدة كما تعيش بلا سلطة تقوم على هذه العقيدة ومن ثم يصرخ العقلاء في الجاهليات الغربية ولا يستجيب لهم أحد؛ لأن أحداً لا يستجيب لكلمات طائرة في الهواء ليس وراءها سلطة تنفيذية وعقوبات تأديبية. وتصرخ الكنيسة ويصرخ رجال الدين ولا يستجيب لهم أحد؛ لأن أحداً لا يستجيب لعقيدة ضائعة ليس وراءها سلطة تحميها وتنفذ توجيهاتها وشرائعها! وتندفع البشرية إلى الهاوية بغير ضابط من الفطرة التي أودعها الله الحيوان! وبغير ضابط من العقيدة والشريعة التي أعطاها الله الإنسان!
وتدمير هذه الحضارة هو العاقبة المؤكدة التي توحي بها كل تجارب البشرية السابقة. مهما بدا من متانة هذه الحضارة وضخامة الأسس التي تقوم عليها. فالإنسان- بلا شك- هو أضخم هذه الأسس. ومتى دمر الإنسان فلن تقوم الحضارة على المصانع وحدها ولا على الإنتاج!
وحين ندرك عمق هذه الحقيقة ندرك جانباً من عظمة الإسلام، في تشديد عقوباته على الفاحشة لحماية الإنسان من التدمير؛ كي تقوم الحياة الإنسانية على أساسها الإنساني الأصيل. كما ندرك جانباً من جريمة الأجهزة التي تدمر أسس الحياة الإنسانية بتمجيد الفاحشة وتزيينها وإطلاق الشهوات البهيمية من عقالها وتسمية ذلك أحياناً بالفن وأحياناً بالحرية وأحياناً بالتقدمية.. وكل وسيلة من وسائل تدمير الإنسان ينبغي تسميتها باسمها.. جريمة.. كما ينبغي الوقوف بالنصح والعقوبة في وجه هذه الجريمة!.. وهذا ما يصنعه الإسلام. والإسلام وحده؛ بمنهجه الكامل المتكامل القويم.
على أن الإسلام لا يغلق الأبواب في وجه الخاطئين والخاطئات ولا يطردهم من المجتمع إن أرادوا أن يعودوا إليه متطهرين تائبين، بل يفسح لهم الطريق ويشجعهم على سلوكه. ويبلغ من التشجيع أن يجعل الله قبول توبتهم- متى أخلصوا فيها- حقاً عليه سبحانه يكتبه على نفسه بقوله الكريم. وليس وراء هذا الفضل زيادة لمستزيد.
{إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب. فأولئك يتوب الله عليهم. وكان الله عليماً حكيماً. وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال: إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار. أولئك أعتدنا لهم عذاباً اليماً}.
ولقد سبق في هذا الجزء حديث عن التوبة. في ظلال قوله تعالى في سورة آل عمران: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم...}
وهو بجملته يصح نقله هنا! ولكن التعبير في هذه السورة يستهدف غرضاً آخر.. يستهدف بيان طبيعة التوبة وحقيقتها:
إن التوبة التي يقبلها الله والتي تفضل فكتب على نفسه قبولها هي التي تصدر من النفس فتدل على أن هذه النفس قد أنشئت نشأة أخرى. قد هزها الندم من الأعماق ورجها رجاً شديداً حتى استفاقت فثابت وأنابت وهي في فسحة من العمر وبحبوحة من الأمل واستجدت رغبة حقيقية في التطهر ونية حقيقية في سلوك طريق جديد..
{إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم. وكان الله عليماً حكيماً}..
والذين يعملون السوء بجهالة هم الذين يرتكبون الذنوب.. وهناك ما يشبه الإجماع على أن الجهالة هنا معناها الضلالة عن الهدى- طال أمدها أم قصر- ما دامت لا تستمر حتى تبلغ الروح الحلقوم.. والذين يتوبون من قريب: هم الذين يثوبون إلى الله قبل أن يتبين لهم الموت ويدخلوا في سكراته ويحسوا أنهم على عتباته. فهذه التوبة حينئذ هي توبة الندم والانخلاع من الخطيئة والنية على العمل الصالح والتكفير. وهي إذن نشأة جديدة للنفس ويقظة جديدة للضمير.. {فأولئك يتوب الله عليهم}.. {وكان الله عليماً حكيماً}.. يتصرف عن علم وعن حكمة. ويمنح عباده الضعاف فرصة العودة إلى الصف الطاهر ولا يطردهم أبداً وراء الأسوار وهم راغبون رغبة حقيقية في الحمى الآمن والكنف الرحيم.
إن الله- سبحانه- لا يطارد عباده الضعاف ولا يطردهم متى تابوا إليه وأنابوا. وهو- سبحانه- غني عنهم وما تنفعه توبتهم ولكن تنفعهم هم أنفسهم وتصلح حياتهم وحياة المجتمع الذي يعيشون فيه. ومن ثم يفسح لهم في العودة إلى الصف تائبين متطهرين.
{وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال: إني تبت الآن}.
فهذه التوبة هي توبة المضطر لجت به الغواية وأحاطت به الخطيئة. توبة الذي يتوب لأنه لم يعد لديه متسع لارتكاب الذنوب ولا فسحة لمقارفة الخطيئة. وهذه لا يقبلها الله لأنها لا تنشئ صلاحاً في القلب ولا صلاحاً في الحياة ولا تدل على تبدل في الطبع ولا تغير في الاتجاه.
والتوبة إنما تقبل لأنها الباب المفتوح الذي يلجه الشاردون إلى الحمى الآمن فيستردون أنفسهم من تيه الضلال وتستردهم البشرية من القطيع الضال تحت راية الشيطان ليعملوا عملاً صالحاً- إن قدر الله لهم امتداد العمر بعد المتاب- أو ليعلنوا- على الأقل- انتصار الهداية على الغواية. إن كان الأجل المحدود ينتظرهم من حيث لا يشعرون أنه لهم بالوصيد..
{ولا الذين يموتون وهم كفار}..
وهؤلاء قد قطعوا كل ما بينهم وبين التوبة من وشيجة وضيعوا كل ما بينهم وبين المغفرة من فرصة.
{أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً}.
اعتدناه: أي أعددناه وهيأناه.. فهو حاضر في الانتظار لا يحتاج إلى إعداد أو إحضار!
وهكذا يشتد المنهج الرباني في العقوبة ولكنه في الوقت ذاته يفتح الباب على مصراعيه للتوبة. فيتم التوازن في هذا المنهج الرباني الفريد وينشئ آثاره في الحياة كما لا يملك منهج آخر أن يفعل في القديم والجديد..
والموضوع الثاني في هذا الدرس هو موضوع المرأة..
ولقد كانت الجاهلية العربية- كما كانت سائر الجاهليات من حولهم- تعامل المرأة معاملة سيئة.. لا تعرف لها حقوقها الإنسانية فتنزل بها عن منزلة الرجل نزولاً شنيعاً يدعها أشبه بالسلعة منها بالإنسان. وذلك في الوقت الذي تتخذ منها تسلية ومتعة بهيمية وتطلقها فتنة للنفوس وإغراء للغرائز ومادة للتشهي والغزل العاري المكشوف.. فجاء الإسلام ليرفع عنها هذا كله ويردها إلى مكانها الطبيعي في كيان الأسرة وإلى دورها الجدي في نظام الجماعة البشرية. المكان الذي يتفق مع المبدأ العام الذي قرره في مفتتح هذه السورة: {الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء} ثم ليرفع مستوى المشاعر الإنسانية في الحياة الزوجية من المستوى الحيواني الهابط إلى المستوى الإنساني الرفيع ويظللها بظلال الاحترام والمودة والتعاطف والتجمل؛ وليوثق الروابط والوشائج فلا تنقطع عند الصدمة الأولى وعند الانفعال الأول:
{يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن- إلا أن يأتين بفاحشة مبينة- وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً. وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً. أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً؟ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً؟ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء- إلا ما قد سلف- إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً}..
كان بعضهم في الجاهلية العربية- قبل أن ينتشل الإسلام العرب من هذه الوهدة ويرفعهم إلى مستواه الكريم- إذا مات الرجل منهم فأولياؤه أحق بامرأته يرثونها كما يرثون البهائم والمتروكات! إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها وأخذوا مهرها- كما يبيعون البهائم والمتروكات!- وإن شاءوا عضلوها وأمسكوها في البيت. دون تزويج حتى تفتدي نفسها بشيء..
وكان بعضهم إذا توفي عن المرأة زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبه فمنعها من الناس وحازها كما يحوز السلب والغنيمة! فإن كانت جميلة تزوجها؛ وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها أو تفتدي نفسها منه بمال! فأما إذا فاتته فانطلقت إلى بيت أهلها قبل أن يدركها فيلقي عليها ثوبه فقد نجت وتحررت وحمت نفسها منه!
وكان بعضهم يطلق المرأة ويشترط عليها ألا تنكح إلا من أراد؛ حتى تفتدي نفسها منه بما كان أعطاها.
كله أو بعضه!
وكان بعضهم إذا مات الرجل حبسوا امرأته على الصبي فيهم حتى يكبر فيأخذها!
وكان الرجل تكون اليتيمة في حجره يلي أمرها، فيحبسها عن الزواج حتى يكبر إبنه الصغير ليتزوجها ويأخذ مالها!
وهكذا. وهكذا. مما لا يتفق مع النظرة الكريمة التي ينظر بها الإسلام لشقي النفس الواحدة؛ ومما يهبط بإنسانية المرأة وإنسانية الرجل على السواء.. ويحيل العلاقة بين الجنسين علاقة تجار أو علاقة بهائم!
ومن هذا الدرك الهابط رفع الإسلام تلك العلاقة إلى ذلك المستوى العالي الكريم اللائق بكرامة بني آدم الذين كرمهم الله وفضلهم على كثير من العالمين. فمن فكرة الإسلام عن الإنسان، ومن نظرة الإسلام إلى الحياة الإنسانية، كان ذلك الارتفاع الذي لم تعرفه البشرية إلا من هذا المصدر الكريم.
حرم الإسلام وراثة المرأة كما تورث السلعة والبهيمة كما حرم العضل الذي تسامه المرأة ويتخذ أداة للإضرار بها- إلا في حالة الإتيان بالفاحشة وذلك قبل أن يتقرر حد الزنا المعروف- وجعل للمرأة حريتها في اختيار من تعاشره ابتداء أو استئنافاً. بكراً أم ثيباً مطلقة أو متوفى عنها زوجها. وجعل العشرة بالمعروف فريضة على الرجال- حتى في حالة كراهية الزوج لزوجته ما لم تصبح العشرة متعذرة- ونسم في هذه الحالة نسمة الرجاء في غيب الله وفي علم الله. كي لا يطاوع المرء انفعاله الأول فيبت وشيجة الزوجية العزيزة. فما يدريه أن هنالك خيراً فيما يكره هو لا يدريه. خيراً مخبوءاً كامناً لعله إن كظم انفعاله واستبقى زوجه سيلاقيه:
{يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن- إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. وعاشروهن بالمعروف. فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً}..
وهذه اللمسة الأخيرة في الآية تعلق النفس بالله وتهدئ من فورة الغضب وتفثأ من حدة الكره حتى يعاود الإنسان نفسه في هدوء؛ وحتى لا تكون العلاقة الزوجية ريشة في مهب الرياح. فهي مربوطة العرى بالعروة الوثقى. العروة الدائمة. العروة التي تربط بين قلب المؤمن وربه وهي أوثق العرى وأبقاها.
والإسلام الذي ينظر إلى البيت بوصفه سكناً وأمناً وسلاماً وينظر إلى العلاقة بين الزوجين بوصفها مودة ورحمة وأنساً ويقيم هذه الآصرة على الاختيار المطلق كي تقوم على التجاوب والتعاطف والتحاب.. هو الإسلام ذاته الذي يقول للأزواج: {فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً}.. كي يستأني بعقدة الزوجية فلا تفصم لأول خاطر وكي يستمسك بعقدة الزوجية فلا تنفك لأول نزوة وكي يحفظ لهذه المؤسسة الإنسانية الكبرى جديتها فلا يجعلها عرضة لنزوة العاطفة المتقلبة وحماقة الميل الطائر هنا وهناك.
وما أعظم قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل أراد أن يطلق زوجه لأنه لا يحبها... ويحك! ألم تبن البيوت إلا على الحب؟ فأين الرعاية وأين التذمم؟..
وما أتفه الكلام الرخيص الذي ينعق به المتحذلقون باسم الحب وهم يعنون به نزوة العاطفة المتقلبة، ويبيحون باسمه- لا انفصال الزوجين وتحطيم المؤسسة الزوجية- بل خيانة الزوجة لزوجها! أليست لا تحبه؟! وخيانة الزوج لزوجته! أليس أنه لا يحبها؟!
وما يهجس في هذه النفوس التافهة الصغيرة معنى أكبر من نزوة العاطفة الصغيرة المتقلبة. ونزوة الميل الحيواني المسعور. ومن المؤكد أنه لا يخطر لهم أن في الحياة من المروءة والنبل والتجمل والاحتمال ما هو أكبر وأعظم من هذا الذي يتشدقون به في تصور هابط هزيل.. ومن المؤكد طبعاً أنه لا يخطر لهم خاطر.. الله.. فهم بعيدون عنه في جاهليتهم المزوّقة! فما تستشعر قلوبهم ما يقوله الله للمؤمنين: {فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً}..
إن العقيدة الإيمانية هي وحدها التي ترفع النفوس وترفع الاهتمامات وترفع الحياة الإنسانية عن نزوة البهيمة وطمع التاجر وتفاهة الفارغ!
فإذا تبين بعد الصبر والتجمل والمحاولة والرجاء. أن الحياة غير مستطاعة وأنه لا بد من الانفصال واستبدال زوج مكان زوج فعندئذ تنطلق المرأة بما أخذت من صداق وما ورثت من مال لا يجوز استرداد شيء منه ولو كان قنطاراً من ذهب. فأخذ شيء منه إثم واضح ومنكر لا شبهة فيه:
{وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً. أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً؟}.
ومن ثم لمسة وجدانية عميقة وظل من ظلال الحياة الزوجية وريف في تعبير موح عجيب:
{وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً؟}..
ويدع الفعل: {أفضى} بلا مفعول محدد. يدع اللفظ مطلقاً يشع كل معانيه ويلقي كل ظلاله ويسكب كل إيحاءاته. ولا يقف عند حدود الجسد وإفضاءاته. بل يشمل العواطف والمشاعر والوجدانات والتصورات والأسرار والهموم والتجاوب في كل صورة من صور التجاوب. يدع اللفظ يرسم عشرات الصور لتلك الحياة المشتركة آناء الليل وأطراف النهار وعشرات الذكريات لتلك المؤسسة التي ضمتهما فترة من الزمان.. وفي كل اختلاجة حب إفضاء. وفي كل نظرة ود إفضاء. وفي كل لمسة جسم إفضاء وفي كل اشتراك في ألم أو أمل إفضاء. وفي كل تفكر في حاضر أو مستقبل إفضاء. وفي كل شوق إلى خلف إفضاء. وفي كل التقاء في وليد إفضاء..
كل هذا الحشد من التصورات والظلال والأنداء والمشاعر والعواطف يرسمه ذلك التعبير الموحي العجيب: {وقد أفضى بعضكم إلى بعض}.. فيتضاءل إلى جواره ذلك المعنى المادي الصغير ويخجل الرجل أن يطلب بعض ما دفع وهو يستعرض في خياله وفي وجدانه ذلك الحشد من صور الماضي وذكريات العشرة في لحظة الفراق الأسيف!
ثم يضم إلى ذلك الحشد من الصور والذكريات والمشاعر عاملاً آخر من لون آخر:
{وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً}.
هو ميثاق النكاح باسم الله وعلى سنة الله.. وهو ميثاق غليظ لا يستهين بحرمته قلب مؤمن؛ وهو يخاطب الذين آمنوا ويدعوهم بهذه الصفة أن يحترموا هذا الميثاق الغليظ.
وفي نهاية هذه الفقرة يحرم تحريماً باتاً- مع التفظيع والتبشيع- أن ينكح الأبناء ما نكح آباؤهم من النساء. وقد كان ذلك في الجاهلية حلالاً. وكان سبباً من أسباب عضل النساء أحياناً حتى يكبر الصبي فيتزوج امرأة أبيه أو إن كان كبيراً تزوجها بالوراثة كما يورث الشيء! فجاء الإسلام يحرم هذا الأمر أشد التحريم:
{ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء- إلا ما قد سلف- إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً}..
ويبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات- وإن كنا نحن البشر لا نحيط بكل حكمة التشريع ولا يتوقف خضوعنا له وتسليمنا به ورضاؤنا إياه على إدراكنا أو عدم إدراكنا لهذه الحكمة فحسبنا أن الله قد شرعه لنستيقن أن وراءه حكمة وأن فيه المصلحة.
نقول: يبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات: الأول أن امرأة الأب في مكان الأم. والثاني: ألا يخلف الابن أباه؛ فيصبح في خياله نداً له. وكثيراً ما يكره الزوج زوج امرأته الأول فطرة وطبعاً فيكره أباه ويمقته! والثالث: ألا تكون هناك شبهة الإرث لزوجة الأب. الأمر الذي كان سائداً في الجاهلية. وهو معنى كريه يهبط بإنسانية المرأة والرجل سواء. وهما من نفس واحدة ومهانة أحدهما مهانة للآخر بلا مراء.
لهذه الاعتبارات الظاهرة- ولغيرها مما يكون لم يتبين لنا- جعل هذا العمل شنيعاً غاية الشناعة.. جعله فاحشة. وجعله مقتاً: أي بغضاً وكراهية. وجعله سبيلاً سيئاً.. إلا ما كان قد سلف منه في الجاهلية قبل أن يرد في الإسلام تحريمه. فهو معفو عنه. متروك أمره لله سبحانه..
والفقرة الثالثة في هذا الدرس تتناول سائر أنواع المحرمات من النساء. وهي خطوة في تنظيم الأسرة وفي تنظيم المجتمع على السواء:
{حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن- فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم- وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم، وإن تجمعوا بين الأختين- إلا ما قد سلف- إن الله كان غفوراً رحيماً. والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم- كتاب الله عليكم- وأحل لكم ما وراء ذلكم.
..}..
والمحارم- أي اللواتي يحرم الزواج منهن- معروفة في جميع الأمم البدائية والمترقية على السواء. وقد تعددت أسباب التحريم وطبقات المحارم عند شتى الأمم واتسعت دائرتها في الشعوب البدائية ثم ضاقت في الشعوب المترقية.
والمحرمات في الإسلام هي هذه الطبقات المبينة في هذه الآية والآية التي قبلها والآية التي بعدها.. وبعضها محرمة تحريماً مؤبداً وبعضها محرمة تحريماً مؤقتاً.. وبعضها بسبب النسب وبعضها بسبب الرضاعة وبعضها بسبب المصاهرة.
وقد ألغى الإسلام كل أنواع القيود الأخرى، التي عرفتها المجتمعات البشرية الأخرى. كالقيود التي ترجع إلى اختلاف الأجناس البشرية وألوانها وقومياتها. والقيود التي ترجع إلى اختلاف الطبقات ومقاماتها الاجتماعية في الجنس الواحد والوطن الواحد..
والمحرمات بالقرابة في شريعة الإسلام أربع طبقات:
أولاها: أصوله مهما علوا. فيحرم عليه التزوج من أمه وجداته من جهة أبيه أو من جهة أمه مهما علون: {حرمت عليكم أمهاتكم}..
وثانيتها: فروعه مهما نزلوا. فيحرم عليه التزوج ببناته وبنات أولاده ذكورهم وإناثهم مهما نزلوا: {وبناتكم}..
وثالثتها: فروع أبويه مهما نزلوا. فيحرم عليه التزوج بأخته وببنات إخوته وأخواته وببنات أولاد إخوته وأخواته: {وأخواتكم}... {وبنات الأخ وبنات الأخت}..
ورابعتها: الفروع المباشرة لأجداده. فيحرم عليه التزوج بعمته وخالته وعمة أبيه وعمة جده لأبيه أو أمه وعمة أمه وعمة جدته لأبيه أو أمه.. {وعماتكم وخالاتكم}.. أما الفروع غير المباشرة للأجداد فيحل الزواج بهم. ولذلك يباح التزاوج بين أولاد الأعمام والعمات وأولاد الأخوال والخالات.
والمحرمات بالمصاهرة خمس:
1- أصول الزوجة مهما علون. فيحرم على الرجل الزواج بأم زوجته وجداتها من جهة أبيها أو من جهة أمها مهما علون. ويسري هذا التحريم بمجرد العقد على الزوجة: سواء دخل بها الزوج أم لم يدخل: {وأمهات نسائكم}..
2- فروع الزوجة مهما نزلن. فيحرم على الرجل الزواج ببنت زوجته وبنات أولادها ذكوراً كانوا أم إناثاً مهما نزلوا. ولا يسري هذا التحريم إلا بعد الدخول بالزوجة: {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن. فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم}..
3- زوجات الأب والأجداد من الجهتين- مهما علوا- فيحرم على الرجل الزواج بزوجة أبيه وزوجة أحد أجداده لأبيه أو أمه مهما علوا.. {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف}.. أي ما سلف في الجاهلية من هذا النكاح وقد كانت تجيزه..
4- زوجات الأبناء وأبناء الأولاد مهما نزلوا. فيحرم على الرجل الزواج بامرأة ابنه من صلبه وامرأة ابن ابنه، أو ابن بنته مهما نزل: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم}.. وذلك إبطالاً لعادة الجاهلية في تحريم زوجة الابن المتبنى. وتحديده بابن الصلب. ودعوة أبناء التبني إلى آبائهم- كما جاء في سورة الأحزاب.
5- أخت الزوجة.. وهذه تحرم تحريماً مؤقتاً ما دامت الزوجة حية وفي عصمة الرجل.
والمحرم هو الجمع بين الأختين في وقت واحد: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف}.. أي ما سلف من هذا النكاح في الجاهلية وقد كانت تجيزه..
ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب والصهر. وهذه تشمل تسع محارم:
1- الأم من الرضاع وأصولها مهما علون: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم}.
2- البنت من الرضاع وبناتها مهما نزلن (وبنت الرجل من الرضاع هي من أرضعتها زوجته وهي في عصمته).
3- الأخت من الرضاع وبناتها مهما نزلن {وأخواتكم من الرضاعة}.
4- العمة والخالة من الرضاع (والخالة من الرضاع هي أخت المرضع. والعمة من الرضاع هي أخت زوجها).
5- أم الزوجة من الرضاع (وهي التي أرضعت الزوجة في طفولتها) وأصول هذه الأم مهما علون. ويسري هذا التحريم بمجرد العقد على المرأة- كما في النسب.
6- بنت الزوجة من الرضاع (وهي من كانت الزوجة قد أرضعتها قبل أن تتزوج بالرجل) وبنات أولادها مهما نزلوا. ولا يسري هذا التحريم إلا بعد الدخول بالزوجة.
7- زوجة الأب أو الجد من الرضاع مهما علا (والأب من الرضاع هو من رضع الطفل من زوجته. فلا يحرم على هذا الطفل الزواج بمن أرضعته فحسب وهي أمه من الرضاع. بل يحرم عليه كذلك الزواج بضرتها التي تعتبر زوجة أبيه من الرضاع).
8- زوجة الابن من الرضاع مهما نزل.
9- الجمع بين المرأة وأختها من الرضاع أو عمتها أو خالتها من الرضاع، أو أية امرأة أخرى ذات رحم محرم منها من ناحية الرضاع..
والنوع الأول والثالث من هذه المحرمات ورد تحريمهما نصاً في الآية. أما سائر هذه المحرمات فهي تطبيق للحديث النبوي: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب». أخرجه الشيخان..
هذه هي المحرمات في الشريعة الإسلامية ولم يذكر النص علة للتحريم- لا عامة ولا خاصة- فكل ما يذكر من علل إنما هو استنباط ورأي وتقدير..
فقد تكون هناك علة عامة. وقد تكون هناك علل خاصة بكل نوع من أنواع المحارم. وقد تكون هناك علل مشتركة بين بعض المحارم.
وعلى سبيل المثال يقال:
إن الزواج بين الأقارب يضوي الذرية ويضعفها مع امتداد الزمن. لأن استعدادات الضعف الوراثية قد تتركز وتتأصل في الذرية. على عكس ما إذا تركت الفرصة للتلقيح الدائم بدماء أجنبية جديدة تضاف استعداداتها الممتازة فتجدد حيوية الأجيال واستعداداتها.
أو يقال: إن بعض الطبقات المحرمة كالأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت. وكذلك نظائرهن من الرضاعة. وأمهات النساء وبنات الزوجات- الربائب والحجور- يراد أن تكون العلاقة بهن علاقة رعاية وعطف واحترام وتوقير فلا تتعرض لما قد يجد في الحياة الزوجية من خلافات تؤدي إلى الطلاق والانفصال- مع رواسب هذا الانفصال- فتخدش المشاعر التي يراد لها الدوام.
أو يقال: إن بعض هذه الطبقات كالربائب في الحجور والأخت مع الأخت وأم الزوجة وزوجة الأب.. لا يراد خدش المشاعر البنوية أو الأخوية فيها. فالأم التي تحس أن ابنتها قد تزاحمها في زوجها والبنت والأخت كذلك لا تستبقي عاطفتها البريئة تجاه بنتها التي تشاركها حياتها أو أختها التي تتصل بها أو أمها وهي أمها! وكذلك الأب الذي يشعر أن إبنه قد يخلفه على زوجته. والابن الذي يشعر أن أباه الراحل أو المطلق غريم له لأنه سبقه على زوجته! ومثله يقال في حلائل الأبناء الذين من الأصلاب بالنسبة لما بين الابن والأب من علاقة لا يجوز أن تشاب!
أو يقال: إن علاقة الزواج جعلت التوسيع نطاق الأسرة ومدها إلى ما وراء رابطة القرابة. ومن ثم فلا ضرورة لها بين الأقارب الأقربين الذين تضمهم آصرة القرابة القريبة. ومن ثم حرم الزواج من هؤلاء لانتفاء الحكمة فيه ولم يبح من القريبات إلا من بعدت صلته حتى ليكاد أن يفلت من رباط القرابة.
وأياً ما كانت العلة فنحن نسلم بأن اختيار الله لا بد وراءه حكمة ولا بد فيه مصلحة. وسواء علمنا أو جهلنا فإن هذا لا يؤثر في الأمر شيئاً ولا ينقص من وجوب الطاعة والتنفيذ مع الرضى والقبول. فالإيمان لا يتحقق في قلب ما لم يحتكم إلى شريعة الله ثم لا يجد في صدره حرجاً منها ويسلم بها تسليماً.
ثم تبقى كلمة أخيرة عامة عن هذه المحارم ونص التشريع القرآني المبين لها:
إن هذه المحرمات كانت محرمة في عرف الجاهلية- فيما عدا حالتين اثنتين: ما نكح الآباء من النساء، والجمع بين الأختين. فقد كانتا جائزتين- على كراهة من المجتمع الجاهلي..
ولكن الإسلام- وهو يحرم هذه المحارم كلها- لم يستند إلى عرف الجاهلية في تحريمها. إنما حرمها ابتداء مستنداً إلى سلطانه الخاص. وجاء النص: {حرمت عليكم أمهاتكم... إلخ}..
والأمر في هذا ليس أمر شكليات؛ إنما هو أمر هذا الدين كله. وإدراك العقدة في هذا الأمر هو إدراك لهذا الدين كله وللأصل الذي يقوم عليه: أصل الألوهية وإخلاصها لله وحده..
إن هذا الدين يقرر أن التحليل والتحريم هو من شأن الله وحده لأنهما أخص خصائص الألوهية. فلا تحريم ولا تحليل بغير سلطان من الله. فالله- وحده- هو الذي يحل للناس ما يحل ويحرم على الناس ما يحرم. وليس لأحد غيره أن يشرع في هذا وذاك وليس لأحد أن يدعي هذا الحق. لأن هذا مرادف تماماً لدعوى الألوهية!
ومن ثم فإن الجاهلية تحرم أو تحلل، فيصدر هذا التحريم والتحليل عنها باطلاً بطلاناً أصلياً غير قابل للتصحيح، لأنه لا وجود له منذ الابتداء.
فإذا جاء الإسلام إلى ما أحلت الجاهلية أو حرمت فهو يحكم ابتداء ببطلانه كلية بطلاناً أصلياً، ويعتبره كله غير قائم. بما أنه صادر من جهة لا تملك إصداره- لأنها ليست إلهاً- ثم يأخذ هو في إنشاء أحكامه إنشاء. فإذا أحل شيئاً كانت الجاهلية تحله أو حرم شيئاً كانت الجاهلية تحرمه فهو ينشئ هذه الأحكام ابتداء. ولا يعتبر هذا منه اعتماداً لأحكام الجاهلية التي أبطلها كلها لأنها هي باطلة لم تصدر من الجهة التي تملك وحدها إصدار هذه الأحكام.. وهي الله..
هذه النظرية الإسلامية في الحل والحرمة تشمل كل شيء في الحياة الإنسانية ولا يخرج عن نطاقها شيء في هذه الحياة.. إنه ليس لأحد غير الله أن يحل أو يحرم في نكاح ولا في طعام ولا في شراب ولا في لباس ولا في حركة ولا في عمل ولا في عقد ولا في تعامل ولا في ارتباط ولا في عرف ولا في وضع.. إلا أن يستمد سلطانه من الله حسب شريعة الله.
وكل جهة أخرى تحرم أو تحلل شيئاً في حياة البشر- كبر أم صغر- تصدر أحكامها باطلة بطلاناً أصلياً غير قابل للتصحيح المستأنف. وليس مجيء هذه الأحكام في الشريعة الإسلامية تصحيحاً واعتماداً لما كان منها في الجاهلية. إنما هو إنشاء مبتدأ لهذه الأحكام مستند إلى المصدر الذي يملك إنشاء الأحكام.
وهكذا أنشأ الإسلام أحكامه في الحل والحرمة وهكذا أقام الإسلام أوضاعه وأنظمته. وهكذا نظم الإسلام شعائره وتقاليده. مستنداً في إنشائها إلى سلطانه الخاص.
لقد عني القرآن بتقرير هذه النظرية وكرر الجدل مع الجاهليين في كل ما حرموه وما حللوه.. عني بتقرير المبدأ. فكان يسأل في استنكار: {قل: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟} {قل: تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} {قل: لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير...} إلخ..
وكان يردهم بهذه الاستنكارات إلى ذلك المبدأ الأساسي. وهو أن الذي يملك حق التحريم والتحليل هو الله وحده. وليس ذلك لأحد من البشر.. لا فرد ولا طبقة ولا أمة ولا الناس أجمعين.. إلا بسلطان من الله. وفق شريعة الله.. والتحليل والتحريم- أي الحظر والإباحة- هو الشريعة وهو الدين. فالذي يحلل ويحرم هو صاحب الدين الذي يدين الناس. فإن كان الذي يحرم ويحلل هو الله فالناس إذن يدينون لله وهم إذن في دين الله وإن كان الذي يحرم أو يحلل أحداً غير الله فالناس إذن يدينون لهذا الأحد؛ وهم إذن في دينه لا في دين الله.
والمسألة على هذا الوضع هي مسألة الألوهية وخصائصها. وهي مسألة الدين ومفهومه. وهي مسألة الإيمان وحدوده.. فلينظر المسلمون في أنحاء الأرض أين هم من هذا الأمر؟ أين هم من الدين وأين هم من الإسلام.. إن كانوا ما يزالون يصرون على ادعائهم للإسلام!!!


هذا الدرس تكملة لما جاء في هذه السورة عن تنظيم الأسرة على قواعد الفطرة، ولا يعود السياق بعد ذلك إلا في موضعين لبيان بعض الأحكام التكميلية في هذا الموضوع الأساسي الهام، الذي يترتب على تنظيمه جريان الحياة الإنسانية في مجراها الفطري الهادئ الصالح، كما يترتب على انحرافها عنه فساد في الأرض كبير.
وهذا الدرس يتضمن تكملة لبيان المحرمات من النساء. ثم يحدد الطريقة التي يحب الله أن يجتمع عليه الرجال والنساء في مؤسسة الأسرة النظيفة. ويكشف عما في هذه الطريقة من تيسير على الناس وتخفيف، إلى جانب نظافتها وطهارتها. ويقرر القواعد التنظيمية التي تقوم عليها تلك المؤسسة الأساسية، والحقوق والواجبات الملقاة على عاتق الطرفين المتعاقدين فيها.
وإلى جانب هذا التنظيم في الأسرة يتطرق إلى شيء من التنظيم لبعض علاقات المجتمع المسلم في الأموال؛ فيبين حقوق الرجال والنساء، في المال المكتسب، والمال الموروث. وما يتبع كذلك في تصفية ما كان من عقود التوارث بالولاء بين غير الأقارب.
ومما يلاحظ- بوجه عام- أن السياق يربط ربطاً دقيقاً بين هذه التنظيمات والأحكام وبين الأصل الأول الكبير للإيمان: وهو أن هذه التنظيمات والأحكام صادرة من الله. وهي مقتضى ألوهيته. فأخص خصائص الألوهية- كما كررنا ذلك في مطلع السورة- هو الحاكمية، والتشريع للبشر، ووضع الأسس التي تقوم عليها حياتهم وارتباطاتهم.
والسياق ما يني يكرر هذا الارتباط الدقيق؛ وينبه إلى هذه الخاصية من خصائص الألوهية. ويكرر كذلك الإشارة إلى صدور هذه التنظيمات عن العليم الحكيم.. وهي إشارة ذات مغزى.. فالأمر في هذا المنهج الإلهي كله هو قبل كل شيء أمر العلم الشامل الكامل، والحكمة المدركة البصيرة.. هذه الخصائص الإلهية التي يفقدها الإنسان، فلا يصلح بعدها أبداً لوضع المنهج الأساسي لحياة الإنسان! ومن هنا شقوة الإنسان في الأرض كلما حاد عن منهج العليم الحكيم، وراح يخبط في التيه بلا دليل، ويزعم أنه قادر، بجهله وطيشه وهواه، أن يختار لنفسه ولحياته خيراً مما يختاره الله!!!
والأمر الآخر الذي يؤكده سياق الدرس ويكرره: هو أن منهج الله هذا أيسر على الإنسان وأخف وأقرب إلى الفطرة، من المناهج التى يريدها البشر ويهوونها، وأنه من رحمة الله بضعف الإنسان أن يشرع له هذا المنهج، الذي تكلفه الحيدة عنه عنتاً ومشقة، فوق ما تكلفه من هبوط وارتكاس.
وسنرى- عند استعراض النصوص بالتفصيل- مصداق هذه الحقيقة في واقع البشر التاريخي وهي حقيقة واضحة في هذا الواقع، لولا أن الهوى يطمس القلوب، ويعمي العيون، عندما ترين الجاهلية على القلوب والعيون!
{والمحصنات من النساء- إلا ما ملكت أيمانكم- كتاب الله عليكم- وأحل لكم- ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة. إن الله كان عليماً حكيماً. ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات- والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض- فانكحوهن بإذن أهلهن، وآتوهن أجورهن بالمعروف، محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان. فإذا أحصن، فإن أتين بفاحشة، فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب- ذلك لمن خشي العنت منكم- وأن تصبروا خير لكم، والله غفور رحيم. يريد الله ليبين لكم، ويهديكم سنن الذين من قبلكم، ويتوب عليكم، والله عليم حكيم. والله يريد أن يتوب عليكم، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً. يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق الإنسان ضعيفاً}..
لقد سبق في نهاية الجزء الرابع بيان المحرمات من النساء حرمة ذاتية. وذلك في قوله تعالى:{ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء- إلا ما قد سلف- إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً. حرمت عليكم أمهاتكم، وبناتكم، وأخواتكم، وعماتكم، وخالاتكم، وبنات الأخ، وبنات الأخت، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة، وأمهات نسائكم، وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن- فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم- وحلائل أبنائكم- الذين من أصلابكم- وأن تجمعوا بين الأختين- إلا ما قد سلف- إن الله كان غفوراً رحيماً}.
أما هذه التكملة: {والمحصنات من النساء...}
فتتعلق بالمحرمات لأنهن في عصمة رجال آخرين. محصنات بالزواج منهم: فهن محرمات على غير أزواجهن، لا يحل نكاحهن... وذلك تحقيقاً للقاعدة الأولى في نظام المجتمع الإسلامي، من قيامه على قاعدة الأسرة، وجعلها وحدة المجتمع، وصيانة هذه الأسرة من كل شائبة، ومن كل اختلاط في الأنساب، ينشأ من شيوعية الاتصال الجنسي، أو ينشأ من انتشار الفاحشة، وتلوث المجتمع بها.
والأسرة القائمة على الزواج العلني، الذي تتخصص فيه امرأة بعينها لرجل بعينه، ويتم به الإحصان- وهو الحفظ والصيانة- هي أكمل نظام يتفق مع فطرة الإنسان وحاجاته الحقيقية، الناشئة من كونه إنساناً، لحياته غاية أكبر من غاية الحياة الحيوانية- وإن كانت تتضمن هذه الغاية في ثناياها- ويحقق أهداف المجتمع الإنساني، كما يضمن لهذا المجتمع السلم المطمئنة: سلم الضمير. وسلم البيت. وسلم المجتمع في نهاية المطاف.
والملاحظ بصفة ظاهرة، أن الطفل الإنساني يحتاج إلى فترة رعاية أطول من الفترة التي يحتاج إليها طفل أي حيوان آخر. كما أن التربية التي يحتاج إليها ليصبح قادراً على إدراك مقتضيات الحياة الإنسانية الاجتماعية المترقية- التي يتميز بها الإنسان- تمتد إلى فترة طويلة أخرى.
وإذا كانت غاية الميل الجنسي في الحيوان تنتهي عند تحقيق الاتصال الجنسي والتناسل والإكثار، فإنها في الإنسان لا تنتهي عند تحقيق هذا الهدف، إنما هي تمتد إلى هدف أبعد هو الارتباط الدائم بين الذكر والأنثى- بين الرجل والمرأة- ليتم إعداد الطفل الإنساني لحماية نفسه وحفظ حياته، وجلب طعامه وضرورياته، كما يتم- وهذا هو الأهم بالنسبة لمقتضيات الحياة الإنسانية- تربية هذا الطفل وتزويده برصيد من التجارب الإنسانية والمعرفة الإنسانية يؤهله للمساهمة في حياة المجتمع الإنساني، والمشاركة في حمل تبعته من اطراد الترقي الإنساني عن طريق الأجيال المتتابعة.
ومن ثم لم تعد اللذة الجنسية هي المقوم الأول في حياة الجنسين في عالم الإنسان؛ إنما هي مجرد وسيلة ركبتها الفطرة فيهما ليتم الالتقاء بينهما ويطول بعد الاتصال الجنسي للقيام بواجب المشاركة في اطراد نمو النوع. ولم يعد الهوى الشخصي هو الحكم في بقاء الارتباط بين الذكر والأنثى. إنما الحكم هو الواجب... واجب النسل الضعيف الذي يجيء ثمرة للالتقاء بينهما، وواجب المجتمع الإنساني الذي يحتم عليهما تربية هذا النسل إلى الحد الذي يصبح معه قادراً على النهوض بالتبعة الإنسانية، وتحقيق غاية الوجود الإنساني.
وكل هذه الاعتبارات تجعل الارتباط بين الجنسين على قاعدة الأسرة، هو النظام الوحيد الصحيح. كما تجعل تخصيص امرأة لرجل هو الوضع الصحيح الذي تستمر معه هذه العلاقة. والذي يجعل الواجب لا مجرد اللذة ولا مجرد الهوى، هو الحكم في قيامها، ثم في استمرارها، ثم في معالجة كل مشكلة تقع في أثنائها، ثم عند فصم عقدتها عند الضرورة القصوى.
وأي تهوين من شأن روابط الأسرة، وأي توهين للأساس الذي تقوم عليه- وهو الواجب لإحلال الهوى المتقلب، والنزوة العارضة، والشهوة الجامحة محله، هي محاولة آثمة، لا لأنها تشيع الفوضى والفاحشة والانحلال في المجتمع الإنساني فحسب، بل كذلك لأنها تحطم هذا المجتمع؛ وتهدم الأساس الذي يقوم عليه.
ومن هنا ندرك مدى الجريمة التي تزاولها الأقلام والأجهزة الدنسة، المسخرة لتوهين روابط الأسرة، والتصغير من شأن الرباط الزوجي وتشويهه وتحقيره، للإعلاء من شأن الارتباطات القائمة على مجرد الهوى المتقلب، والعاطفة الهائجة، والنزوة الجامحة. وتمجيد هذه الارتباطات، بقدر الحط من الرباط الزوجي!
كما ندرك مدى الحكمة والعمق في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل أراد أن يطلق زوجته، معللاً ذلك بأنه لم يعد يحبها: ويحك! ألم تبن البيوت إلا على الحب؟ فأين الرعاية؟ وأين التذمم؟.. مستمداً قولته هذه من توجيه الله سبحانه وتربية القرآن الكريم لتلك الصفوة المختارة من عباده:
{وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً} وذلك للإمساك بالبيوت- ما أمكن- ومقاومة نزوات القلوب، وعلاجها حتى تفيء، وعدم بت هذه الصلة إلا حين تفلس المجادلات كلها، رعاية للجيل الناشئ في هذه البيوت؛ وصيانة لها من هزات العاطفة المتقلبة، والنزوة الجامحة، والهوى الذاهب مع الريح!
وفي ظل هذه النظرة السامية العميقة، تتبدى التفاهة والسطحية فيما ينعق به اليوم أولئك المائعون، وهم يمجدون كل ارتباط إلا الارتباط الذي يحكم الواجب، والذي يرعى أمانة الجنس البشري كله، وهي تنشئة أجيال تنهض بمقتضيات الحياة الإنسانية المترقية، وتحكيم مصلحة هذه الأجيال، لا مصلحة العواطف الوقتية الزائلة!
إن أقلاماً دنسة رخيصة وأجهزة خبيثة لئيمة توحي لكل زوجة ينحرف قلبها قليلاً عن زوجها أن تسارع إلى خدين؛ ويسمون ارتباطها بخدينها هذا رباطاً مقدساً! بينما يسمون ارتباطها بذلك الزوج عقد بيع للجسد!
والله سبحانه يقول: في بيان المحرمات من النساء: {والمحصنات من النساء}.. فيجعلهن محرمات.
هذا قول الله. وذلك قول المائعين المسخرين لتحطيم هذا المجتمع ونشر الفاحشة فيه... {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} إن جهوداً منظمة موجهة تبذل لإنشاء موازين وقيم وتصورات للمجتمع غير تلك التي يريدها الله. ولإقامة أسس للحياة والارتباطات غير تلك التي أقامها الله. ولتوجيه الناس والحياة وجهة غير التي قررها الله.. والموجهون لهذه الجهود يحسبون أنهم ينتهون إلى تحطيم قواعد المجتمع الإسلامي، وتدمير حياة المسلمين في الأوطان الإسلامية، حتى لا تبقى أمامهم حواجز تصد أطماعهم القديمة في هذه الأوطان، بعد أن تنهار عقائدها، وتنهار أخلاقها، وتنهار مجتمعاتها.. ولكن الكارثة أبعد من هذا مدى.. إنها تحطيم قواعد المجتمع الإنساني كله- لا المجتمع الإسلامي وحده- تحطيم قواعد الفطرة التي تقوم عليها حياة الإنسان. وحرمان المجتمع البشري من العناصر التي تحمل أمانته الكبرى. أمانة الحياة الإنسانية المترقية. وذلك بحرمانه من الأطفال المؤهلين- في جو الأسرة الهادئ، المطمئن، الآمن من عواصف الشهوات الجامحة، والنزوات المتقلبة والهوى الذاهب مع الريح- للنهوض بأمانة الجنس البشري كله. وهي شيء آخر غير مجرد التناسل الحيواني! وغير مجرد الالتقاء الشهواني على أساس العواطف وحدها وتنحية الواجب المطمئن الثابت الهادئ!
وهكذا تحق اللعنة على الجنس البشري كله، إذ يحطم نفسه بنفسه؛ ويدمر الجيل الحاضر منه مستقبل الأجيال القادمة. لتحقيق لذاته هو، وشهواته هو، وعلى الأجيال القادمة اللعنة. وتحق كلمة الله على الخارجين على كلمته وفطرته وتوجيهه. ويذوق الجنس البشري كله وبال أمره. إلا أن يرحمه الله بالعصبة المؤمنة التي تقر كلمة الله ومنهجه في الأرض، وتأخذ بيد الناس إليها؛ وتعصمهم من الشر الماحق الذي يهيئونه لأنفسهم بأيديهم.
وهم يحسبون أنهم فقط إنما يحطمون الأوطان الإسلامية، لتنهار حواجزها بتلك الجهود الموجهة الخبيثة! التي تتولاها أقلام وأجهزة من داخل هذه الأوطان ذاتها.
{والمحصنات من النساء}- {إلا ما ملكت أيمانكم}.
وهذا الاستثناء يتعلق بالسبايا اللواتي كن يؤخذن أسيرات في حروب الجهاد الإسلامي وهن متزوجات في دار الكفر والحرب. حيث تنقطع علاقاتهن بأزواجهن الكفار، بانقطاع الدار. ويصبحن غير محصنات. فلا أزواج لهن في دار الإسلام. ومن ثم يكفي استبراء أرحامهن بحيضة واحدة؛ يظهر منها خلو أرحامهن من الحمل. ويصبح بعدها نكاحهن حلالا- إن دخلن في الإسلام- أو أن يباشرهن من غير عقد نكاح من يقعن في سهمه، باعتبارهن ملك يمين، سواء أسلمن أم لم يسلمن.
ولقد سبق لنا في الجزء الثاني من هذه الظلال، بيان موقف الإسلام من مسألة الرق بجملتها.. كذلك ورد بيان آخر عند تفسير قوله تعالى: {حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق؛ فإما منّاً بعد وإما فداء؛ حتى تضع الحرب أوزارها}. في سورة محمد في الجزء السادس والعشرين فيرجع إليهما في مواضعهما.
ونكتفي هنا بالقول: بأن المعسكر الإسلامي كان يعامل أعداءه في مسألة استرقاق الأسرى في الحرب كما يعاملونه من حيث مبدأ الرق، ويفضلهم في نوع معاملته للرقيق وفي اعتبار إنسانيته فضلاً كبيراً. ولم يكن له بد من ذلك. حيث كان استرقاق الأسرى نظاماً عالمياً لا يملك الإسلام إبطاله من جانب واحد. وإلا كان الأسرى من المسلمين يصبحون رقيقاً؛ بينما الأسرى من الكفار يصبحون أحراراً، فترجح كفة المعسكرات الكافرة على المعسكر الإسلامي، وتطمع هذه المعسكرات في مهاجمته وهي آمنة مطمئنة من عواقب الهجوم، بل وهي رابحة غانمة!
ومن ثم لم يكن بد من أن تكون هناك سبايا كوافر في المجتمع المسلم. فكيف يصنع بهن؟ إن الفطرة لا تكتفي بأن يأكلن ويشربن. فهناك حاجة فطرية أخرى لا بد لهن من إشباعها وإلا التمسنها في الفاحشة التي تفسد المجتمع كله وتدنسه! ولا يجوز للمسلمين أن ينكحوهن وهن مشركات. لتحريم الارتباط الزوجي بين مسلم ومشركة فلا يبقى إلا طريق واحد هو إحلال وطئهن بلا نكاح ما دمن مشركات، بعد استبراء أرحام المتزوجات منهن؛ وانقطاع صلتهن بأزواجهن في دار الكفر والحرب.
وقبل أن يمضي السياق القرآني في تقرير ما يحل بعد تلك المحرمات، يربط بين أصل التحريم والتحليل ومصدر التحريم والتحليل. المصدر الذي ليس لغيره أن يحرم أو يحلل؛ أو يشرع للناس شيئاً في أمور حياتهم جميعاً:{كتاب الله عليكم}..هذا عهد الله عليكم وميثاقه وكتابه.. فليست المسألة هوى يتبع، أو عرفاً يطاع، أو موروثات بيئة تتحكم.. إنما هو كتاب الله وعهده وميثاقه.
فهذا هو المصدر الذي تتلقون منه الحل والحرمة؛ وترعون ما يفرضه عليكم وما يكتبه، وتطالبون بما كتب عليكم وما عهد إليكم كذلك.
ومما يلاحظ أن معظم المحرمات التي حرمها القرآن في الآيات السابقة، كانت محرمة في الجاهلية ولم يكن يباح منها في عرف الجاهلية إلا ما نكح الآباء، والجمع بين الأختين- على كره من العرف الجاهلي ذاته لنكاح زوجات الآباء. وقد كان يسمى عندهم مقيتاً نسبة إلى المقت! ولكن لما جاء القرآن يقرر حرمة هذه المحرمات، لم يرجع في تحريمها إلى عرف الجاهلية هذا، إنما قال الله سبحانه: {كتاب الله عليكم}..
هذه لمسة تقتضي الوقوف أمامها لبيان حقيقة الأصل الاعتقادي في الإسلام، وحقيقة الأصل الفقهي. فهذا البيان يفيدنا في أمور كثيرة في حياتنا الواقعية:
إن الإسلام يعتبر أن الأصل الوحيد الذي يقوم عليه التشريع للناس هو أمر الله وإذنه. بإعتبار أنه هو مصدر السلطان الأول والأخير. فكل ما لم يقم ابتداء على هذا الأصل فهو باطل بطلاناً أصلياً، غير قابل للتصحيح المستأنف. فالجاهلية بكل ما فيها- والجاهلية هي كل وضع لا يستمد وجوده من ذلك الأصل الوحيد الصحيح- باطلة بطلاناً أصلياً. باطلة بكل تصوراتها وقيمها وموازينها وعرفها وتقاليدها وشرائعها وقوانينها. والإسلام حين يسيطر على الحياة ويصرفها، يأخذ الحياة جملة، ويأخذ الأمر جملة؛ فيسقط ابتداء كل أوضاع الجاهلية وكل قيمها، وكل عرفها، وكل شرائعها؛ لأنها باطلة بطلاناً أصلياً غير قابل للتصحيح المستأنف.. فإذا أقر عرفاً كان سائداً في الجاهلية، فهو لا يقره بأصله الجاهلي؛ مستنداً إلى هذا الأصل. إنما هو يقرره ابتداء بسلطانه المستمد من أمر الله وإذنه. أما ذلك الذي كان في الجاهلية فقد سقط ولم يعد له وجود من الناحية الشرعية.
كذلك حين يحيل الفقه الإسلامي على العرف في بعض المسائل فهو يمنح العرف ابتداء سلطاناً من عنده هو- بأمر الله- فتصبح للعرف- في هذه المسائل- قوة الشريعة، استمداداً من سلطان الشارع- وهو الله- لا استمداداً من الناس ومن البيئة التي تواضعت على هذا العرف من قبل. فليس تواضع البيئة على هذا العرف هو الذي يمنحه السلطان.. كلا.. إنما الذي يمنحه السلطان هو اعتبار الشارع إياه مصدراً في بعض المسائل. وإلا بقي على بطلانه الأصلي، لأنه لم يستمد من أمر الله. وهو وحده مصدر السلطان. وهو يقول عما كانت الجاهلية تشرعه مما لم يأذن به الله: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله؟} فيشير إلى أن الله وحده هو الذي يشرع. فهل لهم آلهة شرعت لهم ما لم يأذن به الله؟
هذا الأصل الكبير، الذي تشير إليه هذه اللمسة: {كتاب الله عليكم} تقرره وتؤكده النصوص القرآنية في كل مناسبات التشريع، فما من مرة ذكر القرآن تشريعاً إلا أشار إلى المصدر الذي يجعل لهذا التشريع سلطاناً.
أما حين يشير إلى شرائع الجاهلية وعرفها وتصوراتها فهو يردفها غالباً بقوله: {ما أنزل الله بها من سلطان} لتحريرها من السلطان ابتداء، وبيان علة بطلانها، وهي كونها لم تصدر من ذلك المصدر الوحيد الصحيح.
وهذا الأصل الذي نقرره هنا هو شيء آخر غير الأصل المعروف في التشريع الإسلامي. من أن الأصل في الأشياء الحل، ما لم يرد بتحريمها نص، فكون الأصل في الاشياء الحل، إنما هو كذلك بأمر الله وإذنه، فهو راجع إلى الأصل الذي قررناه ذاته، إنما نحن نتحدث عما تشرعه الجاهلية لنفسها دون رجوع إلى ما شرعه الله. وهذا الأصل فيه البطلان جملة وكلية، حتى يقرر شرع الله ما يرى تقريره منه من جديد، فيكتسب منذ أن يرد في شرع الله المشروعية والسلطان.
فإذا انتهى السياق من بيان المحرمات، وربطها بأمر الله وعهده، أخذ في بيان المجال الذي يملك فيه الناس أن يلبوا دوافع فطرتهم في التزاوج؛ والطريقة التي يحب الله أن يلتقي بها أفراد الجنسين لتكوين البيوت؛ وإقامة مؤسسات الأسرة، والمتاع بهذا الالتقاء في نظافة وطهر وجد تليق بهذا الأمر العظيم:
{وأحل لكم- ما وراء ذلكم- أن تبتغوا بأموالكم.. محصنين غير مسافحين.. فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن- فريضة- ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة. إن الله كان عليماً حكيماً}..
ففيما وراء هذه المحرمات المذكورة فالنكاح حلال، وللراغبين فيه أن يبتغوا النساء، بأموالهم- أي لأداء صداقهن- لا لشراء أعراضهن بالأموال من غير نكاح! ومن ثم قال:
{محصنين غير مسافحين}..
وجعلها قيداً وشرطاً للابتغاء بالأموال، قبل أن يتم الجملة، وقبل أن يمضي في الحديث. ولم يكتف بتقرير هذا القيد في صورته الإيجابية المثبته: {محصنين} بل أردفها بنفي الصورة الأخرى: {غير مسافحين} زيادة في التوكيد والإيضاح، في معرض التشريع والتقنين.. ثم لكي يرسم صورة لطبيعة العلاقة الأولى التي يحبها ويريدها.. علاقة النكاح.. وصورة لطبيعة العلاقة الأخرى التي يكرهها وينفيها.. علاقة المخادنة أو البغاء.. وقد كانت هذه وتلك معروفة في مجتمع الجاهلية، ومعترفاً بها كذلك من المجتمع!
جاء في حديث عائشة- رضي الله عنها-: «ان النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم. يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته. فيصدقها ثم ينكحها.. والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته- إذا طهرت من طمثها- أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه. فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب.
وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.. ونكاح آخر. يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت، ومر عليها ليال، بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان. تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل. والنكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها، جمعوا لها ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاطه، ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك فالنوعان الثالث والرابع هما السفاح الذي ينص على نفيه- سواء منه المخادنة والبغاء- والأول هو الإحصان الذي ينص على طلبه.. أما الثاني فما ندري كيف نسميه»
والقرآن يصور طبيعة النوع الذي يريده الله.. فهو إحصان.. هو حفظ وصيانة.. هو حماية ووقاية.. هو إحصان للرجل وإحصان للمرأة. ففي هذه القراءة محصِنين بصيغة اسم الفاعل، وفي قراءة أخرى: محصَنين بصيغة اسم المفعول. وكلا المعنيين يتحقق في هذه الصورة النظيفة القويمة العفيفة. وهو إحصان للبيت والأسرة والأطفال. إحصان لهذه المؤسسة التي تقوم على هذا الأساس ثابتة راسخة وطيدة.
والآخر: سفاح.. مفاعلة من السفح، وهو إراقة الماء في المنحدر الواطئ! مسافحة يشترك فيها الرجل والمرأة، فيريقان ماء الحياة، الذي جعله الله لامتداد النوع، ورقيه، عن طريق اشتراك الرجل والمرأة في إنجاب الذرية وتربيتها وحضانتها وصيانتها. فإذا هما يريقانه للذة العابرة، والنزوة العارضة، يريقانه في السفح الواطئ! فلا يحصنهما من الدنس، ولا يحصن الذرية من التلف، ولا يحصن البيت من البوار!
وهكذا يرسم التعبير القرآني صورتين كاملتين لنوعين من الحياة؛ في كلمتين اثنتين. ويبلغ غايته من تحسين الصورة التي يرتضيها، وتبشيع الصورة التي لا يرتضيها، بينما هو يقرر حقيقة كل من الصورتين في واقع الحياة. وذلك من بدائع التعبير في القرآن.
فإذا انتهى من هذا القيد للابتغاء بالأموال. عاد ليقرر كيف يُبتغى بالأموال:
{فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضةْ}.
فهو يجعل صداق المرأة فريضة لها مقابل الاستمتاع بها. فمن أراد أن يستمتع بامرأة من الحلائل- وهن ما وراء ذلكم من المحرمات- فالطريق هو ابتغاؤها للإحصان- أي عن طريق النكاح (الزواج) لا عن أي طريق آخر- وعليه أن يؤدي لها صداقها حتماً مفروضاً، لا نافلة، ولا تطوعاً منه، ولا إحساناً، فهو حق لها عليه مفروض. وليس له أن يرثها وراثة بلا مقابل- كما كان يقع في بعض الأحوال في الجاهلية- وليس له أن يقايض عليها مقايضة كما كان يقع في زواج الشغار في الجاهلية.
وهو أن يتزوج الرجل امرأة في مقابل أن يدفع لوليها امرأة من عنده! كأنهما بهيمتان! أو شيئان!
وبعد تقرير هذا الحق للمرأة وفرضيته، يدع الباب مفتوحاً لما يتراضى عليه الزوجان بينهما وفق مقتضيات حياتهما المشتركة، ووفق مشاعرهما وعواطفهما أحدهما تجاه الآخر:
{ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة}.
فلا حرج عليهما في أن تتنازل الزوجة عن مهرها- كله أو بعضه- بعد بيانه وتحديده. وبعد أن أصبح حقاً لها خالصاً تتصرف فيه كما تتصرف في سائر أموالها بحرية- ولا جناح عليهما في أن يزيدها الزوج على المهر، أو يزيدها فيه. فهذا شأنه الخاص. وهذا شأنهما معاً يتراضيان عليه في حرية وسماحة.
ثم يجيء التعقيب. يربط هذه الأحكام بمصدرها؛ ويكشف عما وراءها من العلم الكاشف، والحكمة البصيرة:
{إن الله كان عليماً حكيماً}..
فهو الذي شرع هذه الأحكام. وهو الذي شرعها عن علم وعن حكمة.. فيعرف ضمير المسلم من أين يتلقى الأحكام في كل شأن من شئون حياته- وأخصها هذا الذي بينه وبين زوجه- ويطمئن إلى ما يتلقاه من هذه الأحكام، الصادرة عن العلم وعن الحكمة {إن الله كان عليماً حكيماً}...
فإذا كانت ظروف المسلم تحول بينه وبين الزواج من حرة تحصنها الحرية وتصونها، فقد رخص له في الزواج من غير الحرة، إذا هو لم يصبر حتى يستطيع الزواج من حرة، وخشي المشقة؛ أو خشي الفتنة:
{ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات، فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات- والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض- فانكحوهن بإذن أهلهن؛ وآتوهن أجورهن بالمعروف- محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان- فإذا أحصن. فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب. ذلك لمن خشي العنت منكم. وأن تصبروا خير لكم. والله غفور رحيم}.
إن هذا الدين يتعامل مع الإنسان في حدود فطرته، وفي حدود طاقته. وفي حدود واقعه، وفي حدود حاجاته الحقيقية.. وحين يأخذ بيده ليرتفع به من حضيض الحياة الجاهلية إلى مرتقى الحياة الإسلامية لا يغفل فطرته وطاقته وواقعه وحاجاته الحقيقية، بل يلبيها كلها وهو في طريقه إلى المرتقى الصاعد.. إنه فقط لا يعتبر واقع الجاهلية هو الواقع الذي لا فكاك منه. فواقع الجاهلية هابط، وقد جاء الإسلام ليرفع البشرية من وهدة هذا الواقع! إنما هو يعتبر واقع الإنسان في فطرته وحقيقته.. واقتدار الإنسان على الترقي واقع من هذا الواقع.. فليس الواقع فقط هو مجرد تلبطه في وحل الجاهلية.. أية جاهلية.. فمن الواقع كذلك مقدرته- بما ركب في فطرته- على الصعود والتسامي عن ذلك الوحل أيضاً! والله- سبحانه- هو الذي يعلم واقع الإنسان كله، لأنه يعلم حقيقة الإنسان كلها.
هو الذي خلقه ويعلم ما توسوس به نفسه.. {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} وقد كان في المجتمع المسلم الأول رقيق يتخلف من الحروب؛ ريثما يتم تدبير أمره.. إما بإطلاق سراحه امتناناً عليه بلا مقابل. وإما فداء مقابل إطلاق سراح أسارى المسلمين، أو مقابل مال- حسب الملابسات والظروف المنوعة فيما بين المسلمين وأعدائهم المحاربين- وقد عالج الإسلام هذا الواقع بإباحة مباشرة ملك اليمين- كما جاء في الآية السابقة- لمن هن ملك يمينه. لمواجهة واقع فطرتهن كما أسلفنا. مباشرتهن إما بزواج منهن- إن كن مؤمنات- أو بغير زواج، بعد استبراء أرحام المتزوجات منهن في دار الحرب، بحيضة واحدة.. ولكنه لم يبح لغير سادتهن مباشرتهن إلا أن يكون ذلك عن طريق الزواج. لم يبح لهن أن يبعن أعراضهن في المجتمع لقاء أجر؛ ولا أن يسرحهن سادتهن في المجتمع يزاولن هذه الفاحشة لحسابهم كذلك!
وفي هذه الآية ينظم طريقة نكاحهن والظروف المبيحة لهذا النكاح:
{ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات، فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات}..
إن الإسلام يؤثر الزواج من حرة في حالة الطول- أي القدرة على نكاح الحرة- ذلك أن الحرة تحصنها الحرية؛ وتعلمها كيف تحفظ عرضها، وكيف تصون حرمة زوجها. فهن محصنات هنا- لا بمعنى متزوجات، فقد سبق تحريم نكاح المتزوجات- ولكن بمعنى حرائر، محصنات بالحرية؛ وما تسبغه على الضمير من كرامة، وما توفره للحياة من ضمانات. فالحرة ذات أسرة وبيت وسمعة ولها من يكفيها، وهي تخشى العار، وفي نفسها أنفة وفي ضميرها عزة، فهي تأبى السفاح والانحدار. ولا شيء من هذا كله لغير الحرة. ومن ثم فهي ليست محصنة، وحتى إذا تزوجت، فإن رواسب من عهد الرق تبقى في نفسها، فلا يكون لها الصون والعفة والعزة التي للحرة. فضلاً على أنه ليس لها شرف عائلي تخشى تلويثه.. مضافاً إلى هذا كله أن نسلها من زوجها كان المجتمع ينظر إليهم نظرة أدنى من أولاد الحرائر. فتعلق بهم هجنة الرق في صورة من الصور.. وكل هذه الاعتبارات كانت قائمة في المجتمع الذي تشرع له هذه الآية..
لهذه الاعتبارات كلها آثر الإسلام للمسلمين الأحرار ألا يتزوجوا من غير الحرائر، إذا هم استطاعوا الزواج من الحرائر. وجعل الزواج من غير الحرة رخصة في حالة عدم الطول. مع المشقة في الانتظار.
ولكن إذا وجدت المشقة، وخاف الرجال العنت. عنت المشقة أو عنت الفتنة. فإن الدين لا يقف أمامهم يذودهم عن اليسر والراحة والطمأنينة.
فهو يحل- إذن- الزواج من المؤمنات غير الحرائر اللواتي في ملك الآخرين.
ويعين الصورة الوحيدة التي يرضاها للعلاقة بين الرجال الأحرار وغير الحرائر. وهي ذاتها الصورة التي رضيها من قبل في زواج الحرائر:
فأولاً: يجب أن يكن مؤمنات:
{فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات}..
وثانياً: يجب أن يعطين أجورهن فريضة لهن لا لسادتهن. فهذا حقهن الخالص.
{وآتوهن أجورهن}.
وثالثاً: يجب أن تكون هذه الأجور في صورة صداق: وأن يكون الاستمتاع بهن في صورة نكاح. لا مخادنة ولا سفاح: والمخادنة أن تكون لواحد. والسفاح أن تكون لكل من أراد.
{محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان}.
وقد كان المجتمع إذ ذاك يعرف هذه الأنواع من الاتصال الجنسي بين الحرائر كما سلف من حديث عائشة- رضي الله عنها- كما كان يعرف كذلك بين غير الحرائر أنواعاً من البغاء. وقد كان سادة من أشراف القوم يرسلون رقيقاتهم يكسبن بأجسامهن في هذا السبيل القذر، لحساب سادتهن. وكان لعبدالله بن أبي بن سلول- رأس المنافقين في المدينة وهو من سادة قومه- أربع جوار يكسبن له من هذا السبيل! وكانت هذه بقايا أو حال الجاهلية، التي جاء الإسلام ليرفع العرب منها، ويطهرهم ويزكيهم، كما يرفع منها سائر البشرية كذلك!
وكذلك جعل الإسلام طريقاً واحدة للمعاشرة بين الرجال الأحرار وهؤلاء الفتيات، هي طريق النكاح، الذي تتخصص فيه امرأة لرجل لتكوين بيت وأسرة، لا الذي تنطلق فيه الشهوات انطلاق البهائم. وجعل الأموال في أيدي الرجال لتؤدى صداقاً مفروضاً، لا لتكون أجراً في مخادنة أو سفاح.. وكذلك طهر الإسلام هذه العلاقات حتى في دنيا الرقيق من وحل الجاهلية، الذي تتلبط فيه البشرية كلما ارتكست في الجاهلية! والذي تتلبط فيه اليوم في كل مكان، لأن رايات الجاهلية هي التي ترتفع في كل مكان، لا راية الإسلام!
ولكن- قبل أن نتجاوز هذا الموضع من الآية- ينبغي أن نقف أمام تعبير القرآن عن حقيقة العلاقات الإنسانية التي تقوم بين الأحرار والرقيق في المجتمع الإسلامي، وعن نظرة هذا الدين إلى هذا الأمر عندما واجهه المجتمع الإسلامي. إنه لا يسمي الرقيقات: رقيقات. ولا جواري. ولا إماء. إنما يسميهن فتيات.
{فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات}..
وهو لا يفرق بين الأحرار وغير الأحرار تفرقة عنصرية تتناول الأصل الإنساني- كما كانت الاعتقادات والاعتبارات السائدة في الأرض كلها يومذاك- إنما يذكر بالأصل الواحد، ويجعل الآصرة الإنسانية والآصرة الإيمانية هما محور الارتباط:
{والله أعلم بإيمانكم، بعضكم من بعض}..
وهو لا يسمي من هن ملك لهم سادة. إنما يسميهم أهلاً: {فانكحوهن بإذن أهلهن}.
وهو لا يجعل مهر الفتاة لسيدها. فمهرها إنما هو حق لها. لذلك يخرج من قاعدة أن كسبها كله له. فهذا ليس كسباً، إنما هو حق ارتباطها برجل:{وآتوهن أجورهن}..
وهو يكرمهن عن أن يكن بائعات أعراض بثمن، من المال إنما هو النكاح والإحصان: {محصنات غير مسافحات ولامتحذات أخدان}.. وكلها لمسات واعتبارات تحمل طابع التكريم لإنسانية هؤلاء الفتيات، حتى وهن في هذا الوضع، الذي اقتضته ملابسات وقتية، لا تطعن في أصل الكرامة الإنسانية.
وحين يقاس هذا التكريم إلى ما كان سائداً في جاهلية الأرض كلها يومذاك من النظرة إلى الرقيق، وحرمانه حق الانتساب إلى إنسانية السادة! وسائر الحقوق التي تترتب على هذه الإنسانية.. يبدو مدى النقلة التي نقل الإسلام إليها كرامة الإنسان وهو يرعاها في جميع الأحوال، بغض النظر عن الملابسات الطارئة التي تحد من أوضاع بعض الأناسي، كوضع الاسترقاق.
ويبدو مدى النقلة البعيدة حين يقاس صنيع الإسلام هذا، وتنظيمه لأوضاع هذه الحالة الطارئة بما تصنعه الجيوش الفاتحة في هذه الجاهلية الحديثة بنساء وفتيات

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6